العدد 31 - دولي
 

قبل رحيله المنتظر مع نهاية العام الجاري، قام الرئيس الأميركي جورج بوش بجولة لتوديع حلفائه الأوروبيين، فزار سلوفينيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، و شملت زيارته لها لقاء مع البابا بندكتوس السادس عشر، وكان مسك الختام في جولته الأوروبية حليفته التاريخية؛ بريطانيا.

لم يكن لدى بوش الكثير مما يقوله لزعماء الدول الأوروبية التي زارها، فهو على وشك الرحيل، بعد أن ورط دولاً في مغامرتيه الأفغانية والعراقية، لكنه بدا في جولته وكأنه يذكر أوروبا بفضل الولايات المتحدة عليها، فقد تزامنت زيارته مع الذكرى الستين لمشروع مارشال، وهو المشروع الذي ضخت فيه الولايات المتحدة استثمارات بمئات ملايين الدولارات في البلدان الأوروبية، التي كانت خارجة لتوها من ست سنوات مدمرة، هي سنوات الحرب العالمية الثانية، ما أتاح لها العمل على إعادة إعمار ذاتها، ولو كان الثمن العاجل الذي دفعته آنذاك، هو الولاء لأميركا والتسليم بها قائدة للعالم.

ومن المفارق، أن جورج بوش يغادر منصبه وبعض أفضل حلفائه يجلسون على مقاعد الرئاسة في بلدان كانت حين احتاجها، قبل خمس سنوات، تحت حكم أحزاب ورؤساء معارضين لسياساته في العراق. فخلال السنوات الخمس الماضية جرت تحت النهر مياه كثيرة، فعاد الزعيم اليميني سلفيو بيرلوسكوني رئيسا لوزراء إيطاليا، وهو من أكثر رؤساء أوروبا التصاقا بجورج بوش، وهو ما عبرت عنه الصور الملتقطة للرئيسين والقبل التي تبادلاها، فيما اليسار الذي كان تاريخيا، يعتبر إيطاليا معقلا له، يتظاهر منددا بالزيارة، إذ لم يبق له سوى التنديد، بعد أن واجه في الانتخابات الأخيرة أقسى هزائمه منذ الحرب العالمية الثانية لصالح اليمين الإيطالي.

في جولته الفرنسية، كان بوش بالتأكيد سعيدا لأنه لم يلتق في زيارته الأخيرة لفرنسا بالرئيس جاك شيراك، الذي كان أقل من صديق لبوش وأقل من خصم له، بل التقى بنيكولا ساركوزي الذي ربما كان أقرب الرؤساء الفرنسيين إلى الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

مع ذلك فإن فرنسا، التي لم تكن تحتفظ بعلاقات مريحة مع الولايات المتحدة منذ جمهورية ديغول الخامسة في العام 1958، ما زالت عصية على التطبيع الكامل مع أميركا، على الرغم من العلاقة التي تبدو خاصة بين ساركوزي وبوش، فالحقائق التاريخية أثبتت دائما أنها أقوى من العلاقات الشخصية والخاصة بين الرؤساء في دول راسخة المؤسسات مثل الدول الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة.

فوراء اللقاءات الحميمة التي جمعت ساركوزي بجورج بوش، كانت هنالك نقاط خلاف، أشار لها بوش في مؤتمره الصحفي الذي عقده مع الرئيس الفرنسي أثناء الزيارة، بقوله إن علاقات بلاده مع فرنسا «ممتازة»، على الرغم من نقاط الخلاف بين البلدين.

لكن قائمة الخلافات لا تبدو قليلة، فهنالك موضوع دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والذي تعارضه فرنسا، وخاصة بعد مجيء ساركوزي، في حين تدعمه الولايات المتحدة. وهنالك موضوع التغيرات المناخية التي يختلف عليها الطرفان، ففرنسا تعارض الموقف الأميركي من قضايا الاحترار العالمي، وقضايا البيئة عموما.

لكن الموضوع الخلافي الأبرز بين البلدين اليوم، هو ذلك التحول الأخير في موقف فرنسا من سوريا، والذي بدأ يميل إلى المهادنة فالتصالح فالدفء الذي بدأ يميز العلاقات الفرنسية السورية، والذي وصل أخيرا حد توجيه دعوة فرنسية للرئيس السوري بشار الأسد لحضور احتفالات فرنسا بعيدها الوطني، في ذكرى سقوط الباستيل، الذي يصادف الرابع عشر من تموز المقبل، وهي دعوة لقيت رد فعل حذراً من جانب وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس.

وفي مقابل سعادته بأن زيارته إلى فرنسا لم تتضمن لقاء شيراك، فإنه لم يكن سعيداً بأنه لم يلتق صديقه الحميم، توني بلير، في أثناء زيارته لبريطانيا، فقد كان في استقباله غوردون براون، راسم سياسة بلير الأميركية، ولكنه في النهاية ليس بلير الذي كانت لديه ميول شبه شخصية للحاق بركب السياسة الأميركية، حتى في مغامرة مثل مغامرة العراق، فما زالت تتردد أصداء وعد بلير لبوش بأن «يدفع ضريبة الدم» في سبيل الإبقاء على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة.

في زيارة بوش لبريطانيا لعب العامل التاريخي دوراً مختلفاً عن ذاك الذي لعبه في فرنسا، فعلى الرغم من «الكيمياء» المفقودة بين كل من بوش ورئيس وزراء بريطانيا الحالي براون، فإن العلاقات التاريخية بين بريطانيا والولايات المتحدة كانت أقوى من الكيمياء المفقودة بين الرجلين، فمن المعروف أن حكومة براون أعلنت نيتها سحب قواتها من البصرة حيث ترابط، غير أن ضغط العامل التاريخي، ربما، جعل براون يصرح بأنه لن يضع «مواعيد مصطنعة» لسحب القوات البريطانية من البصرة، ولن يسمح بأن يتحول الاختلاف حول سحب القوات البريطانية من العراق، إلى فجوة بين البلدين، وأن سحب القوات يجب أن يأتي بعد نجاح مرض يبرر الانسحاب.

بوش تناول الجانب الشخصي في العلاقة بينه وبين براون بقوله إن براون، كان دوما يهاتفه في البيت الأبيض قبل أن يتخذ أي خطوة تجاه العراق، وهي جملة أثارت تعليقات العديد من الصحف البريطانية التي رأت فيها إهانة لبراون، وتنزيلا لمرتبته إلى تابع يستأذنه قبل إقدامه على أي خطوة سياسية قد تغضب أميركا.

الصحف البريطانية علقت بالسلب على زيارة بوش الوداعية التي لن تكون بعدها زيارة أخرى. والصحف الإيطالية لم تكن أكثر ودا تجاهه، وكذلك المتظاهرون الإيطاليون الذي حمل بعضهم لافتات تقول «بوش في إجازة رومانية، نفضل غريغوري بيك»، في إشارة لفيلم شهير بعنوان «إجازة رومانية»، قام ببطولته نجم هوليوود الشهير في الخمسينيات غريغوري بيك.

أما في فرنسا فقد علقت صحيفة «لا ديبيش دي ميدي» قائلة إن الفرنسيين لن يحتاجوا بعد الآن إلى كراهية بوش، فهو سيغادر نهائيا هذه المرة.

لن يحتاج الأوربيون لكراهية بوش بعد الآن
 
19-Jun-2008
 
العدد 31