العدد 30 - أردني
 

محمود الريماوي

ترتفع بين آونة وأخرى دعوات لإرساء الوحدة الوطنية وتعزيزها، ولا تلبث هذه الدعوات أن تطوى، ثم تطرح مجدداً مع مناسبة أو ظرف جديد بما يشي بأن ثمة مشكلة لا تجد طريقها الى الحل، إلا بصورة جزئية ومؤقتة.

الوحدة الوطنية المتوخاة تلهج بها بعض الألسنة وتتردد في منابر إعلامية، وتمثل مظهراً لاندماج اجتماعي يميز المجتمعات المستقرة حتى لو كانت تلك المجتمعات تشهد ظواهر إقصاء وتهميش لبعض شرائحها. فيما ينكر آخرون وجودها، أو يضعون تفسيرات خاصة بها تقفز عن الحاجة الى اندماج مختلف المكونات الاجتماعية.

وإذ يجري تعريف الاندماج على أنه مفهوم تجريدي يتضمن مفاهيم فرعية تبين الأوجه المختلفة للمشتركات كما يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، إبراهيم عثمان، فإن نشأة الدولة وصيرورة المجتمع المحلي تكشف أن الاندماج يقترن بالتعددية ولا ينفيها. يغتني بها ولا يتبرم منها.

منذ عشرينيات القرن الماضي اختلط أبناء الريف، والبادية بأبناء الحواضر الناشئة في السلط، وإربد، وعمان. وتحقق اختلاط على مستوى آخر تم فيه تجاوز الخلفيات الدينية، والعرقية المختلفة بسلاسة وبلا شعارات.

مشتركات اللغة والدين أسهمت منذ البدء في تحقيق درجات ملحوظة من الاندماج.في بعض الحالات لم يمنع الاختلاف اللغوي أبناء الشركس، والشيشان، والأكراد، من الحضور السريع الوتيرة في النسيج الاجتماعي كجزء منه. وفي حالة أخرى لم يحل الاختلاف الديني، واللغوي دون الاندماج، كما مع ذوي الأصول الأرمنية. وخلال فترة قياسية بدا مجتمع شرق الأردن نموذجاً للتعددية ومصداقاً لها. وقد تحقق ذلك جنباً الى جنب مع توحيد البلاد في إطار الإمارة ثم المملكة الهاشمية، بعدما كانت زعامات محلية تتمتع بنفوذ شبه كامل في مناطقها.وهو ما يعود الفضل فيه للملك المؤسس عبدالله الأول. وقد لعب الجيش العربي دوراً رائداً وتاريخياً في الدمج وإطلاق موجة بناء المؤسسات والإدارات على أسس عصرية حديثة، الجيش العربي نفسه انطلق مؤسسة حديثة وتوحيدية. بهذا اقترن التوحد السياسي والإداري بإرساء التعددية الاجتماعية والثقافية، التي بدت حينذاك وقد استوت بصورة تلقائية تقريباً في المجتمع، وبصورة واعية على مستوى القرار السياسي على مستوى تشكيل الحكومات والإدارات، وفي وقت لم تكن فيه الحدود بين الكيانات قائمة كما ظهرت بصورتها اللاحقة، وكانت الهجرات في اتجاهات شتى وما ينجم عنها من اختلاط ومن تكامل مصالح، هي المألوفة أكثر من الاستقرار.

وقد جاءت وحدة الضفتين بعدئذ، كما لو أنها قننت ونظمت التواصل المفتوح على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية (رفض الانتداب البريطاني المشترك ومناوأة الخطر الصهيوني) الذي كان قائماً على مدى عقود طويلة. أخذ التعدد مداه عبر تلك الوحدة التي ظلت صامدة الى أن أنهاها الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية العام 1967.

مضى واحد وأربعون عاماً على تلك الواقعة، واندفعت مياه وفيرة خلالها تحت الجسور، أكثر دينامية من تلك التي عبرت تحت جسر الملك حسين ثم جسر الشيح حسين (نقطة الحدود الشمالية مع الدولة الإسرائيلية بعد توقيع المعاهدة مع تل أبيب). فأخذت تبرز مشكلات في الاندماج متعددة المصادر والوجهات.بعضها يتعلق بالضغط السكاني على العاصمة ومناطق أخرى في الزرقاء، وإربد بفعل النزوح الكثيف عقب الحرب، ثم بفعل العمل الفدائي الذي وحد الناس في البدء ثم لم يلبث أن قسمهم، وما تلا ذلك من أحداث أيلول التي لم تقتصر نتائجها على المستوى السياسي (عودة السلطة لبسط سيادتها وولايتها على البلاد) بل شملت هجرة داخلية باتجاه العاصمة.

محصلة هذه التطورات خلال ثلاث سنوات فقط، أحدثت صدمة ثم خلخلة للبنيان الاجتماعي، والحقوقي طالت العلاقات بين الناس، ومفهوم المواطنة وواقعها.

مضى نحو ربع قرن على تلك التطورات، ونشأت أجيال وأنماط حياة جديدة. غير أن ضعفاً اعترى النسيج الاجتماعي، فاقمت منه الصعوبات الاقتصادية التي تزايدت باطراد، ولم يفلح تحسن مستويات التعليم وانتشار وسائل الإعلام في الحد من ذلك الضعف الذي انعكس سلباً على الاندماج، بل وللمفارقة زاد منه.

وبينما ركزت كتب التكليف الملكي للحكومات وكذلك البيانات الوزارية المتتابعةعلى توطيد الوحدة الوطنية، وإرساء مجتمع العدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة، فإنه لم تتخذ تدابير كافية وذات مغزى لإعادة تمتين النسيج الاجتماعي، وذلك عبر إشراك مختلف المكونات بالعمل في قطاعات الدولة الحيوية، ثم في المرافق الاقتصادية الهامة للقطاع الخاص، مما بث رسالة الى المجتمع مفادها أن الانقسام واقع بين «قيس ويمن» وما أسهم في إطلاق خطاب غير توحيدي عبر بعض الكتابات والطروحات «السياسية»، ثم في أحاديث الناس حيث بات إظهار الفوارق والخصوصيات والانتماءات الأولية سبيلاً لـ«التعامل» مع المشكلات الاقتصادية، والتماس حلول لها. وجرى وضع الهوية الوطنية، والمواطنة في مواجهة بعضهما بعضاً.

يحمل أستاذ علم الاجتماع في جامعة فيلادلفيا، سالم ساري، الحكومات مسؤولية ظاهرة الإقصاء، والتهميش المتعددة المستويات حيث لم يفلح استدراك متأخر وجزئي في الحد من هذه الظاهرة. فالإقصاء برأيه سياسي شمل المجتمع بأسره ثم بعض شرائحه من الفقراء والسياسيين. وقد أدى تقليص نطاق رعاية الدولة بما في ذلك التوظيف، الى التفات الحكومات لمبدأ الشراكة ، ولكن بعدما أصاب المجتمع ما أصابه من خلخلة ومن انشغال الناس ببعضها بعضاً وما نشأ عن ذلك من ثقافة تفكيكية، بدلاً من توحد الجهد العام لمعالجة المشكلات الحيوية.

وبما أن أنظار الجمهور تتجه الى الحكومات وما يصدر عنها من إسناد مناصب وتولية مسؤوليات عليا، ووسطى، ومن طرق التعامل مع الجمهور والنظرة الى أفراده، علاوة على ما يسم تشكيل الحكومات نفسها من تمثيل عائلي، ومناطقي، وما يتضمنه قانون الانتخاب من تصنيفات، فقد انعكس ذلك كله في تبادل التصنيف والتعريف بالناس. بذلك تم إفراغ التجاور، وزمالة العمل، والتزاوج من دينامياتها، وبدت أنماط الحياة المشتركة كغلالة شفيفة لا تحجب الفرز والانقسامات حيث يصنف الأفراد بأصولهم وهوياتهم الفرعية، وكما كان عليه الحال في القرى قبل أكثر من قرن من الزمان، حين كان يصنف فلان على أنه من فرع كذا أوفخذ ذاك، ومن هذه الحمولة أو تلك.

يحدث ذلك فيما عمّان تزهو عاصمة حيوية زاهية في المشرق العربي، وفيما تفعل العولمة والعوربة فعلهما، عبر وسائل الاتصال التي وفرتها من فضائيات وإنترنت وأجهزة خلوية ومن سلع متعددة المصادر والنشأة والتجميع.

في رأي أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، إبراهيم عثمان، أن النظام السياسي بوسعه تسهيل أو عرقلة عملية الاندماج عبر التدابير التي يتخذها والسياسات التي يتبعها.

ويتفق عثمان مع ساري على أن شريحة المتعلمين والمثقفين خضعت بدورها للتهميش، ثم انتقل الأمر الى اندراج قطاع واسع منهم، في لعبة التماس مصالح من الواقع القائم بدلاً من السعي لتصويبه وتطويره، ثم محاججة هؤلاء من أجل إدامة هذا الواقع.

تلعب المؤسسة التعليمية دوراً مفصلياً في وضع أساسات النهوض والدمج الاجتماعي عبر المناهج والأنشطة المنهجية واللامنهجية، والنشيد الوطني ورفع راية الوطن في المدارس، والمعاهد، والجامعات. منذ ثلاثة عقود على الأقل لم تنجح المؤسسة التعليمية في تحقيق هذه الطموحات الواقعية، وباتت بعض مرافقها ساحة للانقسام والفرز على مستويات مختلفة، لا مختبرا للوحدة والتعددية، دون أن يدفع ذلك لوضع سياسة تعليمية وتربوية عصرية وفعالة تشمل الإجراءات الأمنية وتتعداها، لإعادة المؤسسات منارات إشعاع وصقل لشخصية طالب العلم.

وذلك جنباً الى جانب مع تحديث القوانين العامة للأحزاب، والانتخاب، والاجتماعات، والمطبوعات، وقوانين الأحوال الشخصية، وإرساء عمومية القوانين، والأنظمة عملاً وقولاً، بدلاً من الأسلوب الغريب بالسؤال عن بلد «المنشأ».

ويضع في النهاية عالم الاجتماع، سالم ساري، يده على مشكلة أخرى، تتمثل في تجاور ضعف الاندماج، مع التضييق على الحقوق والحريات الفردية في مجتمع «توحده» رغم انقساماته روح محافظة متنامية تطبع الحراك الاجتماعي بطابعها في العاصمة والمدن.فلا يملك الفرد فرصة التعويض عن التفكك الاجتماعي، بالانصراف مثلاً الى حياة فردية مستقلة ومنتجة، على قاعدة أن الفرد كيان قائم بذاته. وهو ما يحدث في الغرب حين يتم هذا التعويض، وإن بأكلاف اجتماعية كبيرة وسلبية أحياناً.مما يدلل على أن التحديث يلازم التوحيد والدمج.

نشأة الإمارة والدولة اقترنت بالتعددية: الاندماج استحقاق وطني وحضاري..والوفاء به مسؤولية الدولة والمجتمع
 
12-Jun-2008
 
العدد 30