العدد 30 - ثقافي
 

محمود الزواوي

ترقب النقاد عرض فيلم "تشي" بجزأيه "الأرجنتيني" و"المقاتل" في مهرجان كان السينمائي الأخير بتشوق وتلهف كبيرين، ولم يخب ظنهم في النتيجة رغم أنهم أمضوا أربع ساعات ونصف الساعة في مشاهدة هذا العمل السينمائي الملحمي المتميز.

يتعقب المخرج ستيفين سودربيرج في جزأي هذا الفيلم ،حياة الزعيم الماركسي الثوري الأرجنتيني إرنيستو "تشي" غيفارا، والأثر الذي تركه خلال حقبة زمنية مهمة من القرن العشرين في حياة الملايين، وبخاصة بين الشبان، حيث انتشرت سمعته وكتبه وصوره وقمصان تي شيرت والملصقات التي حملت تلك الصور في سائر أنحاء العالم.

وكوفىء الممثل بينيسيو ديل تورو المولود في بورتو ريكو، بمنحه جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي تقديراً لتقمصه العاطفي، والجسدي الواقعي المذهل لشخصية إرنيستو "تشي" غيفارا، أشهر ثوري في أميركا اللاتينية منذ الزعيم الثوري سيمون بوليفار، بطل تحرير العديد من دول أميركا الجنوبية من الحكم الإسباني في أوائل القرن التاسع عشر.

يغطي الفيلم الأول "الأرجنتيني" دور تشي غيفارا في الثورة الكوبية التي انضم إليها منذ بدايتها وأصبح واحداً من كبار أعوان الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو ومن أهم منظري تلك الثورة. ويركز الفيلم الثاني "المقاتل" على محاولة غيفارا نقل الثورة إلى بوليفيا، حيث مني بفشل ذريع، ولم ينجح في استقطاب تأييد الفلاحين من سكان الجبال الذين جاء لتحريرهم، ولقي حتفه في نهاية المطاف في جبال بوليفيا على أيدي القوات البوليفية في العام 1967 في سن التاسعة والثلاثين.

يستند فيلم "تشي" بجزأيه إلى سيناريو من تأليف الكاتبين السينمائيين بيتر بكمان وبن فان دير فين بالاشتراك مع مخرج الفيلم ستيفين سودربيرج. ويقدم المخرج سودربيرج الجزء الأول أو فيلم "الأرجنتيني" في صيغة مقابلة مع صحفي يستعرض فيها النضال الكوبي، مستخدما أسلوب العرض الاسترجاعي (Flashback).

تبدأ القصة برحلة تشي وفيديل كاسترو على متن إحدى السفن من المكسيك، حيث كان كاسترو يعيش في المنفى، إلى كوبا. وتعود قصة الفيلم إلى هذه اللحظات الحاسمة مراراً على امتداد الفيلمين، حيث نعلم أن اثني عشر شخصا فقط نجوا وشاهدوا انتصار الثورة الكوبية والإطاحة بالدكتاتور باتيستا من بين الواحد والثمانين شخصا الذين جاؤوا مع كاسترو من المكسيك في العام 1956.

يركز المخرج سودربيرج على تطوير شخصية تشي بأبعادها العسكرية والسياسية والإنسانية، مقدما العديد من الأمثلة على مهاراته المتعددة في قيادة الثوار وحل خلافاتهم الشخصية ،وإلقاء خطبة مؤثرة في الأمم المتحدة بعد نجاح الثورة الكوبية وتقديم خدماته كطبيب لمعالجة الناس مجانا والتأكيد على أهمية التعليم.

ينهي المخرج سودربيرج فيلم "الأرجنتيني" بعد نجاح الثورة الكوبية، ويبدأ فيلم "المقاتل" بعد مضي سبع سنوات، وبعد أن يكون تشي قد غادر كوبا فجأة في العام 1965 وبعد أن يكون قد تحوّل إلى شخصية ثورية أسطورية عالمية. ويركز الفيلم بعد ذلك على جهود تشي في قيادة ثورة شعبية في بوليفيا بعد أن يكون قد ذهب إلى الكونغو لقيادة ثورة فاشلة فيها، قبل ذهابه إلى موزمبيق حيث قوبل بالرفض من قبل ثوارها.

يتوجه تشي من إفريقيا إلى أدغال بوليفيا، حيث يتخذ سلسلة من القرارات الخاطئة التي تؤدي إلى كوارث متعاقبة. وعلى عكس ما حدث في كوبا من دعم شعبي للثورة فإن الفلاحين البوليفيين يرفضون تشي ويستهجنون وجوده بينهم. وبدلا من تجنيد المزيد من الثوار المتطوعين فإنه يفقد أتباعه القلائل واحدا تلو الآخر بين قتيل وجريح وفار من الخدمة، إلى أن يلقى حتفه على أيدي القوات البوليفية.

يتميز فيلم "تشي" بجزأيه "الأرجنتيني" و"المقاتل" بالبراعة التقليدية للمخرج ستيفين سودربيرج، في تقديم عمل سينمائي متكامل يشتمل على جميع المقومات الفنية المقترنة بالأفلام المتميزة. وتظهر في الفيلم اللمسات التقليدية للمخرج سودربيرج الذي يتميز فيلمه الجديد بالإخراج المحكم وتطوير شخصيات القصة ورشاقة الحوار وقوة أداء الممثلين، وفي مقدمتهم بطل الفيلم بينيسيو ديل تورو، وبراعة التصوير والاستخدام البارع للموسيقى التصويرية في سياق السرد السينمائي. ويشتمل الجزء الأول على سلسلة من المعارك التي تقدم بصورة واقعية وتفاصيل دقيقة تضاهي الأفلام الحربية. كما يتميز الفيلم بجزأيه بصدقه وواقعيته التي تشد المشاهد طوال العرض على مدى أربع ساعات ونصف الساعة، وهو إنجاز بحد ذاته.

ويعزى ذلك أساسا إلى الموقف الحيادي الذي اتخذه المخرج ستيفين سودربيرج في عرض شخصية تشي غيفارا، وهو واحد من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في النصف الثاني من القرن العشرين. ويقول سودربيرج حول ذلك :"لم يكن هدفي هو إعلاء شأن تشي غيفارا أو الحط من قيمته. فليس لي مصلحة شخصية في هذا الرجل، ويقتصر اهتمامي على شخصيته في سياق القصة السينمائية".

وكان بطل الفيلم بينيسيو ديل تورو محركا رئيسيا وراء إنتاج هذا الفيلم. فخلال تصوير مشاهد الفيلم المتميز "تجارة المخدرات" (2000)، للمخرج ستيفين سودربيرج، والذي تقاسم بينيسيو ديل تورو بطولته، دأب على ارتداء قميص تي شيرت يحمل صورة تشي، وأقنع المخرج ستيفين سودربيرج أثناء إخراج ذلك الفيلم بإخراج فيلم عن حياة تشي.

ويقول الممثل بينيسيو ديل تورو إن ما أثار اهتمامه بتشي أولا كونه من أميركا اللا تينية مثله، كما أثار ما سمعه شخصيا من عدد من رفاق تشيه في السلاح إعجابه بشخصية ذلك الثوري الأسطوري. ويضيف أن تشي ما زال مثيرا للخلاف والانقسام في مماته كما كان في حياته.

يشار إلى أن الحكومة الأميركية رفضت فكرة تصوير الفيلم في كوبا بسبب الحظر الذي تفرضه على تلك البلاد، إلا أن المخرج ستيفين سودربيرج حصل على إذن بزيارة كوبا التي قصدها خمس مرات أثناء إخراج الفيلم. وقد صورت مشاهد فيلم "تشي" في إسبانيا وبورتوريكو، بالإضافة إلى مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك والمدينة نفسها. ومن المقرر أن يعرض فيلم "تشي" الذي بلغت تكاليف إنتاجه 65 مليون دولار كفيلمين منفصلين هما "الأرجنتيني" و"المقاتل" في دور السينما الأميركية والعالمية في أواخر العام الجاري.

كما يشار إلى أنه سبق لفيلمين روائيين آخرين أن تناولا حياة غيفارا، الأول هو فيلم "إل تشي غيفارا" (1968) للمخرج الإيطالي باولو هيوش وتقمص شخصية تشي في ذلك الفيلم الممثل الإسباني فرانسسكو رابال. وجسد الممثل العربي عمر الشريف شخصية تشي غيفارا في الفيلم الثاني "تشي" (1969) للمخرج الأميركي ريتشارد فلايشر. إلا أن أيا من هذين الفيلمين لا يرقى للمستوى الفني الرفيع لفيلم "تشي" الجديد. كما ظهرت شخصية تشي في ستة أفلام أخرى بشكل عرضي، بالإضافة إلى الفيلم التلفزيوني "فيديل" (2002) الذي يتعلق بحياة وصعود الزعيم الكوبي فيديل كاسترو.

حياة تشي غيفارا في فيلمين متكاملين: ملحمة سينمائية تقرأ صعود ونهاية الثائر الأسطورة
 
12-Jun-2008
 
العدد 30