العدد 30 - ثقافي
 

نوّاف التل*

مع ندرة كتابات السياسيين الأردنيين بخاصة والعرب بعامة في مراجعة وتقييم وتقديم تجربتهم العملية في أثناء تقلدهم مناصب سياسية في دولتهم، يأتي كتاب «الوسط العربي» للدكتور مروان المعشر ،ضمن الفئة الأكثر ندرة وربما الفريدة من هذه الكتابات، فالمعشر لا يهدف إلى تأريخ لمرحلة سياسية من مراحل المنطقة العربية مرت وانتهت ، بل على النقيض من ذلك يقدم مراجعة لتجربته الشخصية في مجموعة من المحاور الهامة التي مرت على المنطقة العربية ،وأهمية هذه المراجعة تكمن في دور المعشر في صناعة القرار السياسي الأردني بما يتعلق في تلك المحاور. وبالتالي فقد خرج من إطار التأريخ، ولكون معظم القضايا والمحاور التي عالجها الكتاب ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، فان عرض هذه التجربة بحد ذاته يساهم في الإجابة عن تساؤلات مازالت مطروحة وتسليط الضوء على جوانب هامة لم يتم التطرق لها في السابق.

لا ينشر المؤلف كتابه كخاتمة لعمل في المجال العام، فما زال المعشر فاعلاً في المجال العام ،وسيبقى أحد الأسماء المحتملة لاتخاذ موقع لها في دائرة صناعة القرار السياسي في الدولة الأردنية والمنطقة العربية.

ورغم أن كتاب "الوسط العربي" يبدو للوهلة الأولى كأنه موجه تحديداً للجمهور الغربي، إلا أنه - بلا أدنى شك - يقدم مساهمة هامة للسياسي والباحث العربي، كونه يأتي من سياسي عربي مارس دوراً هاماً في صناعة القرار في قضايا محورية، ما زالت المنطقة تعيشها إلى اليوم. وعليه، فإن المعشر سبق أقرانه من السياسيين الأردنيين والعرب ،وقدم وجهة نظره في الحوار السياسي الأردني والعربي في الأمور الراهنة، وقد يشجع نشر المعشر لمؤلفه أقرانه في تقديم وجهات نظرهم التي تعتبر في غاية الأهمية للمواطنين العرب والرأي العام العربي، ناهيك عن أهميتها للباحثين والمتخصصين في سياسات المنطقة المعقدة، كما يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة لتقديمه وجهات نظر ونقاشات لسياسات عربية متضاربة في المنطقة ما زالت قيد التطور.

يعالج الكتاب مجموعة من الموضوعات المحورية إبان العقدين الماضيين ، فهو يقدم تحليلاً وعرضاً للمفاوضات العربية الإسرائيلية منذ مطلع التسعينيات مع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام 1991، ويغطي تطورات هذه العملية السلمية وتدهورها من خلال تعرضه للاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية المتعددة، والمعاهدة الأردنية الإسرائيلية. وتعامل الساسة العرب، ومن ضمنهم المعشر بحكم موقعه، مع استحقاقات هذه الاتفاقات وتدهورها.

يتضمن الكتاب معلومات قيمة تنشر للمرة الأولى عن تطورات العملية السلمية،وتطور إستراتيجية الدولة الأردنية تجاه " خيار الدولتين" . وتحديداً من خلال عرضه وتحليله لتوجهات المدارس المختلفة في الدولة الأردنية ،والتجاذبات ما بينها للتعامل مع هذا الموضوع، وعلى خلاف أغلب الأدبيات الغربية حول المنطقة العربية أو الأدبيات المعارضة من داخل المنطقة، التي تحلل السياسات العربية بعموميتها و بصوره مجردة، ولا تأخذ بعين الاعتبار الديناميكية القائمة بين القوى المختلفة في داخل الدولة العربية ودور هذه الديناميكية في صنع السياسات. يقدم هذا الجزء، بالذات صورة شاملة لتوجهات مدارس الدولة الأردنية وجذورها الأيدولوجية، وكيف قاد النقاش بين المدارس المتباينة بأجندتها السياسية ضمن إطار تفاعلها مع التطورات السياسية في المنطقة العربية بصفة عامة وتطورات القضية الفلسطينية بصفة خاصة، إلى غلبة المدرسة التي تؤمن بضرورة إعادة تعريف المصلحة الوطنية العليا في إطار العمل على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة.

ورغم أن الكتاب تناول بالتحليل مجموعة من القضايا، فإن المعشر لم يغفل الأبعاد الإنسانية في سرده لتجربته السياسية وتحديداً في فصل " أول سفير في إسرائيل" وفصل " الأشهر الستة الأخيرة من حياة الملك الحسين" فالكتاب يقدم إضافة نوعية للقراء أكانوا سياسيين أو باحثين أو مواطنين، وبالذات انها لم تفتقر إلى الموضوعية أبداً بحيث إنها وازنت بين الجوانب الإنسانية، والتمثيل الموضوعي، والسرد التاريخي لوقائع وتفاصيل غير منشورة سابقاً.

لم يغفل المؤلف واحداً من أهم الموضوعات الأكثر إلحاحاً ونقاشاً في المنطقة العربية اليوم، ألا وهو المشروع الإصلاحي. ويرتكز المعشر هنا على خبرته في قيادة واحد من أكثر المشاريع ريادة في المنطقة العربية، وهو مشروع الأجندة الوطنية الذي ترأس لجنتها. ويبين الكتاب أن المشروع الإصلاحي في اطار جهود انجاز الأجندة الوطنية ،خرج من إطار التنظير اللفظي إلى اطار وضع استراتيجية متكاملة يمكن تطيبقها عملياً وقياس مدى انجازها من ضمن معايير محددة. إن تحليل العقبات والتحديات التي واجهت إنجاز الأجندة الوطنية وتطبيقها يظهر ثانية تباين المدارس المختلفة في الدولة الأردنية ،في رؤيتها لأولويات الإصلاح وآليات تطبيقه. وبخاصة أن مشروع الأجندة الوطنية بوصفه مشروعاً إصلاحياً، هو برنامج الدولة الأردنية الذي أخذ بعين الإعتبار تطلعات المجتمع وليس العكس.

ما بين التحليل والقراءة التفصيلية، التي تتناول مراجعة عامة لكل من العملية السلمية والإصلاح في المنطقة، يقدم كتاب المعشر رؤية جديدة للوسط العربي، فهذا الوسط ليس مدرسة سياسية برغماتية تضع سياسات لمواجهة عدد من التطورات الطارئة. بل هي أبعد من ذلك: مدرسة فكرية ترى أن الاعتدال العربي جزء لا يتجزأ منه ، وتتضمن هذه المدرسة استراتيجيات ووجهات نظر تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومنظومة العلاقات الخارجية. وبالقدر نفسه فلهذه المدرسة وجهات نظر غير مساومة في تعميق الديمقراطية والحكم الرشيد، والدور المشارك للمجتمع في صناعة القرار السياسي أياً كان هذا القرار. كما أن التعددية والتنوع الثقافي والاجتماعي في صلب رؤيتها. فتقليص مدرسة الاعتدال العربي أو الوسط العربي إلى مجرد موقف سياسي، أو انتقاء موقف سياسي ليكون ممثلاً لهذه المدرسة لا يعبر عن الاعتدال أو الوسط. بل أن القارئ يستشف أن الاعتدال لا يمكن أن يحيا أو يستمر في الحياة كمدرسة منافسة لمدارس فكرية أخرى، إلا في ظل الدفاع عن مبادئه الفكرية بتفاصيلها ،والتي تغطي مساحات واسعة من الدفاع عن التعددية والتنوع والديمقراطية والتعايش ،وبذلك تكون سياستها الخارجية هي واحدة من توجهاتها الفكرية وليست السمة الأساسية لتكوينها.

يذكر ان الطبعة الاولى من الكتاب لاقت رواجاً واسعاً وقد نفدت خلال أشهر ، وتناول الكتاب صحفيون معروفون منهم توماس فريدمان وديفيد اغناشيوس ، كما تناولت مجلة تايم الأسبوعية الكتاب بالعرض.

مدير مركز الدراسات الاستراتيجية

الجامعة الأردنية

“الوسط العربي” للمعشر: الاعتدال مدرسة فكرية
 
12-Jun-2008
 
العدد 30