العدد 30 - حريات
 

سوسن زايدة

منذ الصغر تخضع الفتاة في بلادنا، لتوجيهات عدد كبير من أفراد أسرتها، وبخاصة الذكور من مختلف الأعمار، حول ما ترتدي وما لا ترتدي، ومن تصادق ومن لا تصادق، وأين تذهب أو لا تذهب، وغير ذلك من أنواع «التوجيهات» التي تمثل وصاية عليها، لا تقتصر في كثير من الأحيان على أسرتها المصغرة، بل تشمل أفرادا كثرا من عائلتها الممتدة.

«عندما يتعلق الأمر بالمرأة، الجميع يتحول ناصحا أو وصيا؛ أفراد الأسرة المصغرة، أفراد العائلة الممتدة، وأحيانا الجيران.» هكذا لخصت نوف، المحامية، وضع المرأة في مجتمعنا، حيث المجتمع هو الذي يحدد مسارات حياة المرأة كما يحدد لها ما هو الصواب وما هو الخطأ. بغض النظر عن عمرها ومستواها التعليمي والمهني.

"بناء على تعاليم ديننا الحنيف، الرجال قوامون على النساء." يقول يوسف ياسين، موظف أعزب في الثلاثين من عمره. "الرجل هو الذي يجب أن يعمل ويعيل أسرته، بإمكان المرأة العمل، لكن الأولوية هي أن تتولى رعاية أطفالها هي بنفسها، وليس الحضانات أو أمها أو أمي. ثانيا المرأة تتعب ولا تتحمل كما يحتمل الرجل، لذلك فالرجل هو المسؤول الأول والأخير. وهذا ما فرضه المجتمع علينا، فمثلا عندما أذهب لطلب يد فتاة سيسألني أبوها ماذا أعمل، فهو يريد ضمان راحة ابنته، وهناك نساء يفضلن عدم العمل والبقاء في المنزل".

أخت يوسف لها حرية العمل، "لكنه عمل لا يتناقض مع الشريعة والعادات والتقاليد". كما أن لها حرية الخروج من البيت وارتداء اللباس الذي تريده، "لكن لكل شيء حدودا في مجتمعنا، وبموجب تعاليم ديننا، فلا يمكنها أن تلبس ما لا يتقبله المجتمع والدين". وبإمكانها أن تحب، "لكن كما يقول المثل: يجب أن يدخل الرجل من الباب، وليس من الشباك، فإذا عرفت أن الشاب الذي تحبه ممتاز ويريد خطبتها، فلا مانع، شرط أن ينتهي الحب بالزواج، وألا يطول هذا الحب إلى سنتين أو ثلاث، وليس هنالك حب من أجل الحب".

ريم، 26 عاما، تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات وتتابع دراستها العليا في الجامعة الأردنية، تعاني من تدخل والديها في شؤونها الخاصة رغم وصولها المرحلة الجامعية. "أمي تتدخل كثيرا في شؤوني الخاصة لكنني أجادلها وأعارضها، أما أبي فيفرض رأيه. أحيانا يتدخل إخواني وأخواتي، وحتى أولاد عمي".

وتوضح أن هؤلاء يرون في ذلك "محافظة على بناتهم من ناحية الشرف والعرض والسمعة،" مشيرة إلى أنها لم تشعر بأنها مراقبة من الأهل إلا بعد أن تعرفت إلى شاب أحبته وتقدم لخطبتها أكثر من مرة، ولكن والدها عارض الأمر، وكذلك أخاها الذي لم يتجاوز 23 سنة. لجأت إلى ابن عمها لمساعدتها لكنه، هو أيضا، تدخل ضدها.

تقول: "صار ابن عمي يتدخل في شؤوني ويحدد لي مع من أتحدث ومع من أقيم علاقة، ثم بدأ في ممارسة ضغوط شديدة علي لأقطع علاقتي بذلك الشاب. زوج أختي الكبرى، لم يكن أفضل حالا، حاول أن يقنعني في البداية، ثم تحول إلى تهديدي وإخافتي، زوج أختي الثانية لم يتورع عن تحريض أخي ضدي." فاكتملت دائرة وصاية شريرة حول الفتاة الجامعية.

بالنسبة لعملها، تؤكد ريم أن أهلها لا يتدخلون فيه إلا إذا كان "غير مناسب، لأن الأهل يطمحون لأن تعمل الفتاة في مكان محترم، إضافة إلى أنهم يحبذون مسألة قرب مكان العمل من البيت».

وتضيف: «يحددون لي ساعة معينة يجب أن أنهي عملي بها. لا يحبون أن أتأخر عن البيت، حتى لو كنت مع صديقاتي. حد رجوعي الأقصى إلى المنزل لا يتجاوز الثامنة مساء. أهلي لا يحبون خروجي كثيرا من البيت».

بالنسبة لشقيق ريم الأمر مختلف، كما قالت ريم بمرارة. وهي تعرف السبب في ذلك، فهو ذكر. تشرح: «أبي حاول منعه من البقاء خارج المنزل بعد التاسعة، لكن أخي تمرد على الوضع ورضخ أبي. أنا لن أطالب بهذا لأني أعرف مصير طلبي. أنا فتاة في النهاية».

الدكتور جمال الخطيب، اختصاصي الطب النفسي يبرر ذلك بأن مجتمعنا مبني على الأسرة أكثر من الفرد. «إذا دققنا النظر، نرى أن الوحدة الأساسية في مجتمعنا هي الأسرة، لذلك يصطدم أحيانا حق الأسرة مع حق الفرد. لا نستطيع القول إننا مجتمع فردي وحقوق الأفراد فيه مقدسة مئة في المئة. كثير من النساء والرجال يضحون بحقوقهم الشخصية من أجل حقوق الأسرة».

الدكتور باسل الحمد الاختصاصي النفسي، يعتبر أن أسوأ مظاهر المجتمع الجمعي تتجلى عندما يتعلق بالمرأة، لأن مشكلتها ليست فقط مع المجتمع العريض الذي لا يتقبل أن تعيش حياتها باستقلالية، بل يؤثر على كل قرارات حياتها: كيف تلبس وكيف تتكلم ومن تصادق ونشاطاتها، وسطوة الأخ والأهل عليها.

ويضيف: «وبهذا تفقد المرأة قدرتها على اتخاذ القرار، ماذا تدرس وماذا تعمل ومن تحب ومن تتزوج، حتى وإن كانت تعتقد أنها تتخذ قراراتها بوعي وأنها حرة في قراراتها، تكون في الحقيقة مستلبة. ولكن، في مجتمع يستلب حرية قرارات أفراده، فإن هذا يعني سلب حرية الرجل أيضا.»

زواج نوف من شاب أحبته ويشاركها كثيرا من اهتماماتها وطموحاتها وحتى مهنتها (فهو محام أيضا)، لم يخفف من تدخل المحيطين بها في خصوصياتها، بل زاد منه، كما تقول، إذ لا تختلف الأجواء كثيرا عند انتقال الفتاة إلى بيت الزوجية، فعندما يأتي العريس، طالبا يد الفتاة، يُعقد اجتماع موسع للعائلة الممتدة للعروس. تقول ريم: «نحن نتزوج العائلة أيضا».

«قبل الارتباط كانت العائلة تتحكم بي، وكذلك الجيران والأقارب والأسرة الممتدة. بعد الزواج أصبحت لدي أسرتان تتحكمان بي: أهلي وأهل زوجي.» تقول نوف التي تؤكد أن زوجها راض عن طريقة لبسها ومظهرها، لكن أخاه ووالدته يبدون ملاحظاتهم عليها. وتضيف أن «الأمر لا يتوقف هنا بل يوجهون لي أسئلة حول عملي ودوامي وساعات ذهابي وعودتي.»

هذا كله فرض على نوف نوعا من الرقابة الذاتية التي فرضتها على نفسها وهو ما جعلها تشعر بأن «إنتاجي يقل ومساحة الإبداع في عملي تضيق ومساحة الاستمتاع في الحياة تتقلص بسبب شعوري بأنني تحت المراقبة.» Qoute

الدكتور جمال الخطيب، يرى أن المرأة قد تضطر في بعض الأحيان للتنازل عما تعتقد أنه جزء من حريتها الشخصية، وهو ما يجعلها تشعر بالظلم، "وهذا يخلق نوعا من القلق وعدم الراحة والتوتر في شكل عام، فتعيش في جو من التناقض بين مشاعرها وأحاسيسها الداخلية، والرغبة في الانطلاق والقيود المفروضة عليها من الخارج". ويضيف الخطيب أن ذلك «يقلل من الإحساس بالقيمة الذاتية على المدى البعيد، وقد يؤدي إلى إصابات نفسية شديدة أولها الاكتئاب».

أما باسل الحمد فيرى «أن قرارات المرأة تكون محكومة عادة بالاعتبارات المجتمعية، وقلة هن النساء أو الرجال الذين يعيشون خارج هذه المعادلة الناشئة من إنكار فردية الحاجات. باختصار، لا يوجد اعتراف بأن حرية الأفراد لها خصوصية، أنها متميزة وفردية. مجتمعنا لا يعترف بحريات الأفراد أصلا، لا يعترف مثلا بحاجات المرأة أو الرجل الجنسية إلا ضمن قنوات محددة جدا.

كلما حرصت المرأة على حقها في الخصوصية، زادت الشكوك في دوافعها وأحكمت الرقابة عليها وازدادت التساؤلات حول علاقاتها وحول سويتها الأخلاقية والنفسية، فالخصوصية بالنسبة للمرأة مرادفة للانحراف. وهنا يكثر الأوصياء الذين لن يترددوا في اقتحام خلوتها والتصنت على مكالماتها الهاتفية والشك فيما تفعله خلف الأبواب المغلقة، وتتحول إلى شخص مستباح بالكامل، ليس من قبل شخص فقط، بل من أشخاص عديدين: الأهل أو الأقارب، و حتى الجيران.

يقول يوسف إنه لن يكون وصيا على أخته «لأنني أعرف أخلاقها، وهي تعرف حدودها». بل سيكون مراقبا من الخارج. «وإذا لم يعجبني اختيارها سأنصحها كما ينصحني أهلي في اختياراتي. لكن الفرق بيني وبينها، هو أنها إذا اختلفت مع زوجها سترجع إلى أهلها ليساعدوها، في حين سأكون أنا مسؤولا بالكامل عن اختياري. ممكن أن أطلق زوجتي وأسكن وحدي وأعمل ما أريد، لكنني لن أعود إلى أهلي. أما المرأة فلن يكون مردها إلا إلى أهلها وإخوانها تسند ظهرها عليهم. يجب أن تعيش في نطاق بيت أهلها، فإذا لم تكن مرتاحة بين عائلتها فلن ترتاح في أي مكان آخر، مجتمعنا لن يسمح لأي إمرأة بأن تعيش خارج بيت عائلتها».

الحمد يؤمن بأن إعادة إنتاج العلاقة بين الفرد والمجتمع ستستمر إلى أن تتغير الافتراضات الأساسية للحياة الاجتماعية الصحيحة. «في المجتمع الجمعي هناك قوانين راسخة لا مرئية تحدد علاقات الأفراد ببعضهم، وهي قوانين يعاد النظر فيها بشكل جذري في المجتمع الحديث». وهو يرى أنه في السابق، كانت السيادة في مجتمعاتنا العربية للأسرة، في حين أن السيادة في المجتمعات الغربية للفرد. لكن الآن، وبعد تأثير وسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، أعيدت صياغة المجتمعات لتكون مجتمعات جمعية، تسيطر فيها الجماعة أكثر من سيطرة الفرد أو الأسرة.

غير أن «مرجعية اتخاذ القرار في المجتمع العربي لم تعد الأسرة،» يقول الحمد «فالأسرة تدرك أن احتياجاتها في اتجاه ما ومع ذلك تقرر في اتجاه آخر، لأن الناس تعتقد ذلك وتفكر فيما سيفكر الآخرون عنهم. وهكذا يتشكل العقل الجمعي في مجتمعاتنا. الاختلاف الآن يظهر في الحريات، كيف تحدد هذه الحريات وكيف يتخذ الفرد قراراته».

الفتاة، ما زالت تفتقد التعامل اللائق بها، ليس من أندادها فقط، بل وممن هم أقل منها علما وموهبة ومساهمة في تنمية المجتمع، وفي ذلك إشارة إلى تخلف في المجتمع لا يمكن تجاوزه إلا بتغيير الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع المرأة، من طفولتها إلى شيخوختها.

“نحن نتزوج عائلات أزواجنا”: الفتاة وذلك العدد الكبير من الأوصياء عليها
 
12-Jun-2008
 
العدد 30