العدد 30 - أردني
 

نهاد الجريري

عندما استقر ت طلائع المهاجرين الشركس في عمان أول مرة عام 1878، لم تكن عاصمة الاردن فيما بعد سوى خرائب ووديان. عمر الشركس عمان ثم عمروا جرش والزرقاء ووادي السير، وهي مناطق لا زالت ترتبط بوجودهم المبكر فيها.

تبدأ حكاية الشركس من شمال القفقاس التي تمتد من بحر قزوين شرقا إلى البحر الأسود غربا. ويعرفون كقومية باسم "أديغا Adighe" التي تضم تقسيمات أو مكونات سكانية تميزت عن بعضها باللهجة المحلية وبموقعها الجغرافي من الوطن الشركسي. فمنهم القبرطاي، والشابسوغ، الأبزاخ، البزادوغ. منطقة القفقاس ذات الأغلبية الإسلامية كانت مسرحا لصراع إقليمي ولحركات تمرد على السلطة القيصرية في روسيا التي ردت عليهم بقسوة جعلت أعدادا منهم تغادر مواطنها وتستقر في أجزاء عديدة تابعة للدولة العثمانية آنذاك، ومنها الاردن.

يؤرخ محمد علي وردم، أحد الشخصيات الشركسية المعروفة والأمين العام السابق لوزارة التنمية الاجتماعية، لتتابع الهجرات الشركسية إلى الأردن في كتيب بعنوان "التحولات في المجتمعات المحلية الأردنية من أصول شركسية/ محور اللغة). ويقول إن "أول الواصلين إلى عمان كانوا من شركس الشابسوغ حيث استقروا في محيط المدرج الروماني وسكن بعضهم في كهوفه." ذلك أن الشابسوغ كانوا الضحية الأولى للاحتلال الروسي لأنهم كانوا يسكنون ساحل البحر الأسود حيث بدأت روسيا من هناك بقطع الطريق البحري عن الأتراك تمهيدا لاحتلال المناطق الداخلية.

توالت الهجرات الشركسية إلى وادي السير في 1880 وإلى جرش في 1885 وإلى ناعور في 1901 وإلى الرصيفة في 1909. موجة أخرى صغيرة هاجرت إلى عمان مطلع القرن العشرين سكن أفراده حي المهاجرين الذي سمي بهذا الاسم نسبة إليهم.

عمل هؤلاء بشكل أساسي في الزراعة وتربية الحيوانات فكانوا مزارعين مهرة. ومع الزراعة كان لا بد من توفر الحدادة فكانت أيضا من المجالات التي أبدعوا فيها. ومع تأسيس إمارة شرق الأردن دخل الشركس بقوة في العمل الحكومي فانخرطوا في دوائر الدولة والجيش والشرطة. يقول وردم "صارت الوظيفة العامة هي المهنة الثانية بعد الزراعة في المجتمع الشركسي." فكان منهم رؤساء حكومات ووزراء وسفراء وضباط. وقدم الشركس شهداء في إطار نضال الحركة الوطنية والتقدمية الأردنية، وكذلك في الحروب العربية ضد إسرائيل.

لا يعرف رقم دقيق لعدد الشركس في الأردن. البعض يقدر أعدادهم بنحو 100-120 ألف نسمة. لكن وردم يقول إن هذا التقدير مستحيل بالنظر إلى أن نسبة المواليد لدى الشركس متدنية جدا عما هي عليه بين باقي مكونات المجتمع الأردني. ويقول "هذه النسبة لا تتجاوز 2% فالشركس ليسوا كثيري الإنجاب مثل العرب، ثم إنه يندر أن يجمع شركسي في زواجه بين أكثر من امرأة، أو أن يطلق زوجته ويتزوج بأخرى." وهكذا يقدر وردم تعداد الشركس بحوالي 70 ألف نسمة.

ويلاحظ وردم أن المجتمع الشركسي بات أكثر انفتاحا على بقية المجتمعات في المملكة. أهم مظاهر هذا الانفتاح تتمثل في "شبه ضمور" للغة الشركسية لصالح العربية، وزيادة نسبة التزاوج بين الشراكسة والعرب وهي نسبة تصل اليوم إلى ما بين 20-25% من الزيجات الشركسية بحسب تقديرات وردم.

يتميز المجتمع الشركسي بنظام صارم من العادات والتقاليد ظل متبعا حتى وقت قريب. هذا النظام يشكل اللحمة التي تربط أواصر المجتمع الشركسي إذ تخضع له جميع مكونات المجتمع بنفس الدرجة. يتجلى أثر هذه العادات في تربية النشء الجديد في عبارة "وا أديغا إي" وتعني "ألست شركسيا" وتعتبر من أقسى عبارات التوبيخ إذا ارتكب شركسي خطأ ما. وفحوها "لا يحق لك أن تخطىء لأنك شركسي."

من التقاليد الرائجة في المجتمع الشركسي ما يتعلق بالزواج الذي يحرصون على أن يكون متباعدا؛ فلا يجوز الزواج بين أبناء العم أو الخال على اعتبار أنهم أشقاء، كما العوائل الشركسية لا تمييز بين ذكر أو أنثى.

حفاظا على الإرث الوطني، أنشأ الشركس عديدا من المؤسسات والأندية والجمعيات لحفظ اللغة والعادات والتقاليد. من أولها الجمعية الخيرية الشركسية عام 1932 لتكون بيتا للشراكسة يعنى بالدرجة الأولى بمساعدة الأقل حظا في المجتمعات المحلية الشركسية. ثم كان تأسيس النادي الأهلي في عام 1944 كناد يعنى بالرياضة بالدرجة الأولى، ثم تأسس نادي الجيل الجديد في 1949 ليعنى بالحفاظ على الموروث الثقافي الشركسي أولا. وردم الذي أسس نادي الجيل يقول "ليس ثمة تنافس بين الأهلي والجيل، بل إن الاثنين يكملان بعضهما البعض." ويلحظ أن أثر نادي الأهلي كان عظيما في تعزيز دور الرياضة في المجتمع الأردني. فكان معظم الرياضيين في الأربعينيات والخمسينيات من الشركس.

أما نادي الجيل الجديد "نبجيشرا خاسا"، فقصة إنشائه طريفة جمعها محمد علي باتر وردم في كتيت بعنوان "ذكريات عن نشأة نادي الجيل الجديد بعمان." وجاء فيها أن الأصل في إقامة مثل هذا النادي لحفظ التراث الشركسي جاء عندما أدرك جيل من الشباب الشركس أنهم لا يعرفون قراءة أو كتابة الشركسية بالرغم من أنهم يتحدثون بها. فكان زملاؤهم العرب يتندرون عليهم ويقولون "صوت لغتكم يشبه كيس جوز ترميه على الأرض!". وكان من أهم عناصر هذا النادي مؤرخ وشاعر شركسي اسمه كوبة شعبان جاء إلى الأردن من دمشق بناء على دعوة من محمد علي وردم في عام 1951. وقد ساهم شعبان في تعليم الشباب الشركس ألف باء الشركسية فتمكنوا من كتابتها وقراءتها. كما ألف مسرحية من 4 فصول بالشركسية عن أيام الهجرة.

ملحمة هجرة الشركس أيضا كانت موضوعا لرواية شهيرة كتبتها الروائية الأردنية من أصول شركسية زهرة عمر بعنوان "الخروج من سوسروقة"،

أما حياتهم في عمان فقد سجل جوانب منها الروائي الراحل زياد قاسم في روايتيه "أبناء القلعة" و"الزوبعة".

**

الخطيفة

من التقاليد الرائجة في المجتمع الشركسي ما يعرف "بالخطيفة"، وهي طقس يمارسه الشباب عند الزaواج.

وتتم الخطيفة بالتوافق بين الشاب والفتاة اللذان قررا الزواج، وبمعرفة بعض الأصدقاء أو المقربين مثل الشقيقات أو زوجات الأخ. حيث "يخطف" الشاب الفتاة وييذهب بها إلى منزل أحد أصدقائه، ويبقى الشابان هناك إلى أن يقبل الأهل بالأمر الواقع فيباركوا الزواج.

يلجأ الشبان الشراكسة إلى "الخطيفة" إذا كان هناك ما قد يعطل أو يعقد طلب يد الفتاة مباشرة من أهلها، وغالبا ما يكون العامل الاقتصادي هو الحاسم في هذه المسألة. ويلحظ وردم أن أهل الفتاة قد يفضلون هذا التقليد لتجنب النفقات المالية والواجبات الاجتماعية المرتبطة بإعداد العروس. وهكذا تتوزع هذه النفقات بين العائلات في المجتمع الشركسي. فلا بد أن تقدم العائلة التي تستضيف الفتاة "المخطوفة" الهدايا والملابس لها، وحتى لحماتها، ضمن طقوس معينة.

**

كوتا شركسية شيشانية

حاز الشركس، منذ تأسيس الإمارة، على مقاعد في المجالس التشريعية والنيابية الأردنية المتتالية. حصة الشــــركس والشيشـــان فــي المجلـــس النيابي الحالي تتمثل في ثلاثــة مقاعد: معقد في الدائرة الخامسة مـــن عمان يشغله سميح بينو، وآخر في الدائرة السادس يشغله منير صوبر، وثالث في الزرقاء ويشغله مرزا بولاد.

الشركس ملحمة الخروج من بلاد القفقاس
 
12-Jun-2008
 
العدد 30