العدد 30 - أردني | ||||||||||||||
نهاد الجريري قد يدهش الزائر من بلادنا إلى أي من دول الاتحاد الأوروبي في موسم انتخابي، من أن ألمانيا يقيم في باريس مثلا، يمكنه المشاركة في الانتخابات البلدية الفرنسية. في حين أن دولة عربية مثل الكويت تحصر حق الاقتراع، في أي نوع من الانتخابات، في الكويتيين الحاصلين على الجنسية من الدرجة الأولى. وهنا في الأردن، موقف الدهشة هذا، قد يكون مبررا بالنسبة لزائر، ولكنه لن يكون كذلك بالنسبة لأي مقيم في أي بلد أوروبي، فألمانيا، مثلا، أعطت الحق للعامل الأجنبي في المشاركة في النقابات العمالية بغض النظر عن جنسيته. علي محافظة، أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية، يتذكر بكثير من المودة كيف أنه "في عام 1964 زار فرع النقابات العربية ضمن مجمع للنقابات العمالية في ألمانيا، وكان من بينهم عمال أردنيون لا يحملون الجنسية الألمانية." ما حلم به يوما بعض العرب، بأن تكون للعربي مثل هذه الحقوق البسيطة وغير المكلفة في أي بلد عربي يقيمون فيه، صار حقيقة واقعة لدى الأوروبيين المنضوين تحت راية الاتحاد الأوروبي الذي يضم نحو 500 مليون نسمة يتوزعون على 27 دولة، يتحدثون أكثر من 23 لغة، وينتمون لعشرات الإثنيات والقوميات. إن كنت مواطنا في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، تستطيع أن تكون في بلد أول النهار، وأن تنتقل إلى بلد آخر مختلف تماما في آخره، من دون أن تضطر إلى مساءلة عن جواز سفر أو تأشيرة. يحب كثير من الأوروبيين أن ينظروا إلى قارتهم على أنها حاضنة لعوامل الاندماج والوحدة – على المستويين الاقتصادي والثقافي على الأقل- حتى قبل ظهور المقدمات التي توجت قبل 15 عاما بإعلان الاتحاد الأوروبي. قصة الاتحاد الأوروبي فريدة في نوعها، فقد راعى المخططون لتحقيقه اعتماد المؤسسية والاختيارية في الانضمام، حتى باتت معظم الدول الأوروبية تتهافت على الانضمام إليه، وخلال نصف قرن من الزمان أصبح الاتحاد الذي بدأ بست دول يضم 27 دولة. ولدت فكرة الاتحاد من رحم الصراعات الداخلية والخارجية. فبعد الحرب العالمية الثانية تحديدا، ظهرت حاجة إلى تجنيب القارة أي خطر قد يجرها إلى حرب شاملة على غرار الحربين العالميتين الأولى والثانية. في 1946، ألقى رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، وينستون تشيرتشل، كلمة في جامعة زيورخ في سويسرا، اعتبرها كثيرون أول خطوة عملية في اتجاه الوحدة الأوروبية. دعا تشيرتشل في كلمته تلك، إلى إنشاء "العائلة الأوروبية"، وقال إن اللبنة الأولى في هذه العائلة هي تسوية الخلافات بين فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص. يشرح علي محافظة أن "الأوروبيين اكتشفوا بعد الحرب العالمية الثانية، أن الخروج من مأزق الاقتتال يتم بالتعاون بينها، وكان الخلاف الأبرز بين فرنسا وألمانيا حول مناجم الحديد والفحم الحجري، فأوجدوا في 1951 حلا بأن تقوم شركات برأسمال مختلط فرنسي ألماني على استغلال هاتين المادتين." هذا التعاون المبدئي بين الدولتين الأوروبيتين المتناحرتين، أفضى في عام 2000 إلى استثمار ألماني في فرنسا مقداره 23 بليون يورو مقابل 29 بليون يورو استثماراً فرنسياً في مشاريع ألمانية. على خلفية هذا التوافق الذي انضمت إليه كل من إيطاليا ودول البنيلوكس: بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ، أقيمت السوق الأوروبية المشتركة بموجب معاهدات روما في 1957. هذه السوق دعت إلى تعرفة جمركية واحدة بين الدول الأعضاء تضمن حرية تنقل البضائع والعمال والأفراد العاملين في صناعة الصلب والفحم. ويبرز بين بنود اتفاقية السوق الأوروبية بند أشار إلى أن "الدول الموقعة عاقدة العزم على وضع الأسس لاتحاد يحقق تقاربا أكبر بين شعوب أوروبا." وهكذا أخذت السوق الاقتصادية في أهدافها ودوافعها أولى الخطوات في اتجاه أن تكون بوتقة سياسية لكل أوروبا. يقول جمال الشلبي أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الهاشمية إن "التعاون الأوروبي بدأ اقتصاديا لكنه أخذ يضع قواعد سياسية وقانونية وثقافية لتكون ركيزة لهذا البناء الأسطوري." في وقت لاحق ألغيت التعرفة الجمركية بين الدول الأعضاء، ما ضمن قدرا أكبر من حرية تبادل البضائع، وبالتالي هامشا ربحيا أكبر بكثير. كما حد هذا الإجراء من حدة التنافس بين الدول الأعضاء في مواجهة دول أخرى فيما يتعلق بمنتجات الطاقة أو بالمنتجات والمشاريع الزراعية التي ضمنت عوائد مجزية للمزارعين ضمن تلك السوق. هذا النجاح دفع في عام 1973 كلا من الدنمارك وإيرلندا والمملكة المتحدة لاتخاذ قرار بالانضمام إلى هذه المنظومة. وفي 1979، تطور مفهوم البرلمان الأوروبي الذي يعد امتدادا للجمعية العامة في لجنة الصلب والفحم. وفي ذلك العام انتخب أعضاء البرلمان من خلال الاقتراع المباشر في الدول الأعضاء. واللافت في هذا البرلمان أن المنتخبين يتخذون مقاعدهم بحسب كتلهم السياسية لا البلدان التي يمثلونها. الثمانينيات شهدت تطورات مهمة في تاريخ السوق، فتوسعت لتشمل اليونان وإسبانيا والبرتغال، وفي 1985، وبهدف تحقيق قدر أكبر من الاندماج والانصهار، وقعت اتفاقية شنغن التي فتحت الحدود بين معظم الدول الأعضاء، ليس فقط أمام التجارة ورأس المال وإنما أيضا أمام الأفراد العاديين، سواء أكانوا مرتبطين بهذه التجارة أم لا. المنحنى التصاعدي التالي في تطور السوق الأوروبية جاء عام 1990 بعد سقوط جدار برلين وإعادة توحيد الألمانيتين، حيث أصبحت ألمانيا الشرقية جزءا من ألمانيا الموحدة العضو في السوق. هذا الأمر دفع باتجاه توسع السوق شرقا. يشرح الشلبي: "العقل الأوروبي منطقي مع نفسه، يدرك ما يريد وما لا يريد، يعتقد تمام الاعتقاد بأن المستقبل لا يبنى على القوة وإنما على أساس المصالح المشتركة." هذه المصالح المتشابكة أفضت في 1993 إلى إعلان الاتحاد الأوروبي بموجب معاهدة ماستريخت. هذا الانصهار الاقتصادي –أولا- تُوّج في 2002 بتطبيق التعامل بالعملة الأوروبية الموحدة اليورو € في 15 من دول الاتحاد، فيما يعرف "بمنطقة اليورو Eurozone"، التي تعد أكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي وصل 14.4 تريليون دولار، فاحتل المرتبة الأولى بين اقتصادات العالم، فيما حل الاقتصاد الأمريكي ثانيا بقيمة 13.86 تريليون دولار. لقد أدى نجاح الأوروبيين الذين نشبت بين دولهم حربان عالميتان خلال نصف قرن، كانت الثانية منهما خاتمة قرون طويلة من الحروب فيما بينها، إلى إثارة تساؤلات عن السبب الذي جعل دولا بهذا التاريخ من العداء تنجح في تحقيق هذا الشكل الراقي من أشكال الاتحاد، فيما لا تزال البلدان العربية التي يفترض أنها تتمتع بعوامل من الوحدة والاندماج أقوى من تلك التي تربط بين دول أوروبا، تعيش حالة من الفرقة يغذيها التنافس والعداء غير المعلن بين دولها، فلماذا فشل العرب فيما نجح الأوروبيون في خلق وحدة فيما بينهم؟ يعتبر محافظة أن في إمكان العرب أن يستفيدوا من النموذج الأوروبي "لو توفرت النية لذلك." ولكنه يستدرك قائلا "إن النية غير متوافرة لأن الأنظمة غير شرعية وغير مقبولة من شعوبها." الشلبي يشير إلى النقطة نفسها بقوله: "ثمة صراع على السلطة بين القادة العرب وبين الأنظمة العربية الحاكمة. فكل حاكم يدعي أن له من الشرعية ما يجعل من حقه إخضاع الآخرين له." الشلبي يورد بعدا آخر ولكنه اجتماعي، ففي رأيه أن "بنية المجتمع العربي تعتمد على القبلية والعشائرية، غير القادرة على أن تفهم أو تتفهم أهمية المؤسسات في حياتها." وفي هذا الإطار نفسه يشير الشلبي إلى أن تجربة الاتحاد الأوروبي لم تكن تسعى إلى "محو القوميات المنضوية تحت مظلته، وإنما خلق عوامل مشتركة ثقافية وسياسية واقتصادية، فهدف الانتقال من الدولة القومية إلى مفهوم ‘الدولة فوق الدولة superstate‘ لا يعني بأي حال من الأحوال محو شخصية الدولة المعنية." محمد المومني أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك يرى أن "المقصود في الأصل من فكرة الاتحاد لم يكن إنتاج وحدة سياسية تنصهر فيها كافة المكونات، بل الوصول إلى درجة عالية من التنسيق السياسي." ويتابع أن "كثيرا من الأوروبيين لا يريدون أن تنصهر أوروبا في دولة واحدة." ربما كان أكبر دليل على نجاح تجربة الاندماج الأوروبي، هو أن الاتحاد يضمن حق المواطنة بموجب المادة 17 من معاهدة السوق الأوروبية المشتركة المعدلة، والتي تنص على أن "كل شخص يحمل جنسية دولة عضو هو مواطن في الاتحاد، هذه المواطنة تكمل ولا تلغي المواطنة القومية." هذا المفهوم ضمن "للمواطن الأوروبي" حق التصويت والترشح في الانتخابات المحلية في دولة عضو غير الدولة الأم. كما ضمن الحق بأن يتمتع هذا المواطن بالحماية الدبلوماسية التي توفرها قنصلية أي من الدول الأعضاء في بلد ثالث لو لم تتوافر فيه قنصلية تمثل بلده الأم. |
|
|||||||||||||