العدد 30 - كتاب
 

على مدى عشرة صفوف تعليمية، من الأول الابتدائي إلى العاشر الأساسي، درس كاتب هذه السطور في مدرسة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في الرمثا، أقصى شمال المملكة، 81 كم شمال عمان.

منذ سنوات تعلمه الأولى، تشكل لديه انطباع بأن العالم ينحصر في الرقعة الواقعة ما بين منزله ومدرسته، وهي مسافة لا تتعدى الخمسة كيلومترات، فبقي طوال هذه المدة حبيس هذه المسافة القصيرة.

كنا، نحن أبناء مدرسة الوكالة، نشعر بالاختلاف عن باقي أقراننا وأبناء جيلنا ممن يتعلمون في المدارس الحكومية والمدارس الخاصة على حد سواء.

أول الغيث في إدراك الاختلاف، كان من خلال دوري كرة القدم الذي تتنافس فيه المدارس المنتشرة في مدينة الرمثا؛ كانت المباريات تنظم، ولكننا لم نكن نتمكن من المشاركة فيها لسبب ما زلت أجهله حتى اليوم، فنكتفي بما تيسر لنا من مشاهدة اللاعبين في مبارياتهم التي كان معظمها يجري في باحة إحدى المدارس، وعلى الأغلب في مدرستي مصعب بن عمير، وأبو تمام.

مظاهر اختلاف أخرى كنا نشعر بها، حين كانت المدارس الحكومية تعطل يوم الخميس من كل أسبوع -استبدلت اليوم بالسبت- فيما نحن نتجه إلى المدرسة، فلم تكن لنا عطلة سوى عطلة يوم الجمعة، فتشكل لدي انطباع كغيري ممن درسوا في تلك المدرسة، أن يوم الجمعة ذو قدسية خاصة، فهو يوم للمساواة، ولا فرق فيه بين تلميذ في مدارس وكالة الغوث أو في مدرسة حكومية أو خاصة.

زيارات المسؤولين للمدرسة كان ينسحب عليها الاختلاف أيضا، فحين كان يزور مسؤول مدرستنا، كان ذلك بحكم أن المدرسة تتبع إداريا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا). كان يزورنا باستمرار شخص أميركي طويل أشقر الشعر، ما زلت أذكر اسمه وأتذكر سيارة الأونروا السوداء التي كان يستقلها؛ كان اسمه مستر "براون".

تشكل لدينا مجتمع خاص بنا، قام بحكم الظروف، فبتنا ننظم بطولات رياضية ومباريات كروية، ونتغلب على بعضنا في كرة السلة على الملعب الإسفلتي الذي أذكر أنه مزق لي بنطال جينز كنت قد اشتريته قبل يومين فقط. ومن يومها عزفت عن اللعب، وما زلت حتى اليوم أبتعد عن الرياضة التي ما لبثت أن تلاشت تماماً من حساباتي.

العاطفة المراهقة لم تسلم كذلك من العزوف عن الآخر، أذكر أن جميع طلبة المدرسة كانوا متعلقين بفتيات من المدرسة نفسها التي كنا نداوم فيها فترتين؛ صباحي ومسائي، وبرغم أنني كنت أميل واستلطف فتاة من مدرسة الرميضاء الحكومية التي تبعد عن مدرستنا كيلومترا واحدا، فإنني لم أكن أرغب في أن أشذ عن السرب، فكان أن جاريت زملائي فوقع نصيبي، بعد توزيع الحصص، على فتاة اسمها مي، كانت من نصيب مراهقتي الجسدية والعاطفية.

في الصف العاشر الأساسي كنا على مفترق طرق، فالمدرسة لا تدرس سوى للصف العاشر، البعض كان يتمنى أن تدرّس التوجيهي لنبقى في أحضان المدرسة. آخرون وكنت من بينهم، كانوا يتمنون لو تقتصر الدراسة في مدارس الوكالة لغاية الصف السادس الابتدائي، لنرى العالم بوضوح أكبر.

بعدما أنهينا الصف العاشر، جرى توزيعنا تبعاً لمعدلاتنا، وتخصصنا، على المدارس الحكومية المنتشرة في محافظة إربد. وكان من نصيبي وزميلين لي فقط، أن انتقلنا إلى مدرسة الرمثا الثانوية للبنين، بتخصص أدبي. زميلاي في الشعبة أ، وأنا في الشعبة ب.

في الصف الدراسي الجديد كان علي بخلاف زملائي الآخرين، أن أبحث عن علاقات جديدة، بعكس أبناء المدرسة الذين درسوا فيها من الصفوف الابتدائية، أو حتى درسوا معاً في مدارس أخرى فانتقلوا وانتقلت معهم علاقاتهم.

أعترف بأن الفشل كان حليفاً لي، فلم أستطع أن أكون صداقات حقيقية، ولم تكن العلاقات بيننا تتعدى الزمالة الحميمة، بينما نجح أحد زملائي السابقين ممن انتقلوا معي من مدرسة الوكالة في تكوين مثل هذه العلاقة الإنسانية، وفشل الآخر مثلي تماماً.

سليمان البزور: الإنسان قد يكون جزيرة
 
12-Jun-2008
 
العدد 30