العدد 30 - أردني | ||||||||||||||
محمد المصري* نادراً ما يدقق كثيرون حين يتابعون تغطية إعلامية ،لمناسبة رسمية تجري في الديوان الملكي بالزي الذي يرتديه حرس قاعة العرش. بل إن البعض قد يصابون بالدهشة حين يعلمون بأن ما يرتديه الحرس هو زي شركسي، وأن جذور هذا التقليد تعود إلى بواكير تأسيس الدولة الأردنية. لم يكن هذا التقليد استثنائياً، بل كان مألوفاً يعكس المكون الاجتماعي والثقافي المتنوع ،في بقعة جغرافية تأسست فيها دولة حديثة. ولسنوات طويلة كان الجمهور الرياضي لكرة السلة منقسماً بين ناديين كبيرين: الأهلي والأرذودكسي، على مدى عقود أربعة سيطرة الناديان على ايقاع اللعبة وعلى نبض الشارع. لم يدر بخلد أحد أن النادي الأرثودكسي أسسته مجموعة من المسيحيين الأرثودكس في الأردن ،أو أن النادي الأهلي أسسته مجموعة من الشركس في الأردن. وأن الناديين جزء من أندية وجمعيات أسستها فئات اجتماعية ذات خصوصية ثقافية في اطار المجتمع الأردني منذ تبلوره في حدود الدولة الحديثة، مثل: نادي الجيل، جمعية الفيحاء... وهذه المؤسسات لا تعكس مكوناً ثقافياً خاصاً بالشيشان أو الشوام بقدر ما تعكس التنوع والتركيب الذي يسم المجتمع . منطقة شرق الأردن هي امتداد طيبعي من الناحية الجغرافية والاجتماعية والثقافية، لما عرف عبر قرون طويلة ببلاد الشام. ولكون هذه البقعة الجغرافية كانت هي تخوم بادية بلاد الشام، وهي المناطق الداخلية لبلاد الشام والأكثر فقراً ، ولم تزدهر كحواضر الشام الكبرى أو مدنه الساحلية في القرون الوسطى..فقد بقيت هذه المنطقة تتأثر بهذه العوامل في تكوينها الاجتماعي والثقافي، فمن ناحية سيطر عليها تاريخياً نمطا حياة البداوة والزراعة الكفافية (أي للإستهلاك المحلي الضيق النطاق) وهما نمطا معيشة لا يساهمان في تراكم اقتصادي، يؤدي إلى بناء اجتماعي وثقافي ذا شخصية محددة. من جهة أخرى ونتيجة للأنماط المعيشية السائدة، بقيت هذه المنطقة هدفاً لهجرات بشرية صغيرة ومحدودة من مناطق بلاد الشام الأخرى، غايتها البدء بحياة جديدة محفوفة بروح المغامرة وأحياناً المخاطرة. رغم تعدد أسباب ودوافع من توافدوا للاستقرار في مناطق شرق الأردن خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فإن حياة هؤلاء هؤلاء اتسمت بالارتحال من منطقة إلى أخرى في بلاد الشام، تتباين أوضاعها مع الظروف المعيشية لقراهم أو مدنهم الأصلية. وتعامل هؤلاء مع المناطق الجديدة بما تفترضه مقتضيات التعامل مع المجتمع المحلي. لعله من المفيد الإشارة إلى أن أغلب أساليب الإندماج بين هؤلاء المستقرين الجدد والمجتمع المحلي، تمثلت في علاقات المصاهرة أو الانضواء تحت جناح عشيرة استقرت قبل وصولهم بزمن، أو مزاولة التجارة وشراء الأراضي. كانت المجتمعات المحلية صغيرة العدد نسبياً ،ومرنة إلى درجة يسهل معها استيعاب القادميين الجدد بسرعة ملفتة للانتباه، فالسلط وهي الحاضرة الأكبر كانت خليطاً مندمجاً بين عشائر أقامت فيها منذ بداية القرن التاسع عشر، وعائلات وأفراد وفدوا إليها على مدار القرن التاسع عشر والعشرين من نابلس ودمشق ومناطق أخرى من بلاد الشام. وعمان كما نعرفها اليوم نتاج التعايش بين الشركس والشيشان ،وعشائر كانت مستقرة وأخرى وفدت من السلط وفلسطين. إما اربد فهي مزيج من فئات اجتماعية كانت مستقرة، وأخرى وصلت من حوران ودمشق ولبنان وشمال فلسطين. إن ظروف الضعف الاقتصادي وغياب تراكم حضاري خلال القرون الوسطى ،هو ما أضفى على منطقة شرق الأردن في فترة بناء الدولة الحديثة الشخصية والهوية المميزة لها. فهي ليست قائمة على إرث تاريخي عميق ومتراكم ،يمنعها من التنوع ويعيق اندماج القادميين الجدد. والمبادئ التي تم أعلانها كمرجعية لبناء الدولة الحديثة في الأردن ،جاءت متسقة مع هذه الشروط الموضوعية، فبناء الدولة الحديثة كان خطوة واحدة ضمن مشروع أكبر هو بناء دولة عربية أكبر، قائم على الإعتراف بالتعدد. فرئيس أول سلطة تنفيذية كان درزياً (رشيد طليع)والنواة الأولى للجيش العربي وعلى مدار العشرينات من القرن الماضي تم اجتذابها من فلسطين وسوريا. وكوادر الجهاز البيرواقراطي للدولة الحديثة ،كان خليطاً من النسيج المتنوع للمجتمع الأردني الحديث ومن مناطق مختلفة في بلاد الشام. وشهدت الدولة الأردنية الحديثة وحتى أوائل الأربعينات هجرات صغيرة متعددة من سوريا لفئات اجتماعية، استقرت وسرعان ما انخرطت في النسيج الاجتماعي دون الحاجة لنكران شاميتها مثلاً( بدير ، الطباع ..وعائلات أخرى) . ميلاد دولة الضفتين بعئذ لم يكن يشكل على اي نحو تهديداً للشخصية الأردنية، إذ تطورت هذه الشخصية انطلاقاً من ميلاد الدولة على إرث من التنوع، تقبل به وتستجيب لآلياته وتداعياته، وقد اخذت دولة الضفتين بعين الاعتبار بناء الدولة على أسس الثنائية التي قامت عليها. قد لا يكون معلوماًا على نطاق واسع بأن المؤسسة الوطنية الأهم وهي الجيش العربي ومنذ عام 1950، استوعبت أعداداً كبيرة من المقاتلين الفلسطينين الذين أصبحوا جزءاً من الجيش، وكذلك الأجهزة البيروقراطية التي سرعان ما توسعت. ودخلت فعاليات القطاع الخاص بدورها في سيرورة إعادة التشيكل لتعبر عن ثنائية التكوين في الدولة الجديدة. ناهيك عن الأحزاب وقوى المجتمع المدني والأندية والمنظمات غير الحكومية. لقد أصبحت الدولة وعلى مدار عقدين ،قائمة على تنوع كبير أساسه التنوع الذي كان قائماً في الضفة الشرقية ،يجمع مكونات عرقية ودينية وثقافية متعددة ،أضيفت اليها المكونات الثقافية المتعددة التي أضافتها الضفة الغربية أو حملها جمهور اللاجئين. التعبير الثقافي كان يعكس هذا التنوع، فلم يعبر عن أحادية هوية. والآن ومن نافل القول أن الاصطفافات في الشارع الأردني وفي الحياة السياسية كانت ايدولوجية وسياسية ،ولم تكن قائمة على أسس بلد الأصل، فعمانيو الأربعينات أو الخمسينات والستينات لم يجدوا حرجاً أن يكون عمانيين دون حاجة للتكتم على جذروهم ،أو التأكيد على هذه الجذور التاريخية الأسبق على استقرارهم في عمان. أبناء العائلة الشامية الواحدة كانوا يصطفون على سبيل المثال أمام بعضهم بعضاً على أسس سياسية. إلا أن ريح التغيير بدأت تهب مع بدايات الربع الأخير من القرن العشرين، وعلى الرغم من أنها بدايات خجولة ومترددة ،فقد أصبحت تمد جذورها في الاطار المتخيل لاعادة تشكيل الهوية الأردنية. كان هاجسها أمنياً في إطار التنافس المشحون مع منظمة التحرير في أعقاب المواجهة المسلحة في أيلول 1970. إن إعادة تعريف الشخصية الأردنية ونزع عناصر التنوع والغنى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ،أدى بالمدافعين عن هذا الرأي إلى أسلوب انتقائي، في إعادة قراءة التطور التاريخي لمنطقة شرق الأردن قبل تأسيس الدولة الحديثة لدرجة يشعر معها الجمهور ،أن هذه البقعة وعلى مدار التاريخ البشري كانت تعمل على قدم وساق من أجل انشاء شخصية وهوية خاصة أحادية. وترافق مع هذا، تصور مضطرب وغير متماسك لمميزات هذه الشخصية خاصة تلك المستقاة من أنماط معيشية، لدرجة تكاد تدعي بأن نمط الحياة البدوي أو الزراعي البعلي ،هي أنماط خاصة في الأردن لم تكن قائمة في كافة أصقاع الأرض. ساهمت في ذلك الكتابات التي مثلت وجهة النظر السياسية لفريق من منظمة التحرير هاجسها التأكيد على تمايز الهوية الفلسطينية، منكرةً وخلافاً للواقع التاريخي التنوع الذي عاشه المجتمع، منذ تأسيس الدولة الحديثة وقبلها وخلال دولة الضفتين للتأكيد على برنامجها السياسي الذاتي . إن إنكار التنوع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ،هو في حقيقته تدمير للميزة الفريدة والمنافسة للشخصية الأردنية والمجتمع الأردني. وهو تحد لمجتمع ليس فيه أكثرية أو أقلية ويعيد إنتاج نفسه وبحياته اليومية والانتاجية في إطار هذا التنوع، ولا يمكن قسره ليعبر عن نفسه بنمط معيشي واحد ، أو لهجة واحدة أو تعبير فني و ثقافي واحد. *باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية الجامعة الأردنية |
|
|||||||||||||