العدد 30 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي
الذين يفتقدون الحضور السياسي لإسحق فرحان، عليهم أن يراقبوا تقلبات الحركة الإسلامية التي كان الفرحان علماً من أعلامها، وأول أمين عام لـ"جبهة العمل الإسلامي". قد لا يكون الفرحان بعيداً في رؤاه عن الطور الأخير لجبهة العمل، غير أنه ممن يتقنون الحوار مع الحكومات، وبدرجة او بأخرى مع القوى السياسية المختلفة، أي أنه سياسي أكثر من سواه. كان الفرحان من أوائل الإسلاميين الذين توزروا. فعل ذلك في العام 1970 حين انضم لحكومة وصفي التل الخامسة في تشرين الأول من ذلك العام. واحتفظ بالحقيبة الوزارية في حكومتي أحمد اللوزي اللاحقتين، ثم في حكومة زيد الرفاعي الأولى، وقد خرج في تعديل على الحكومة وحل محله، عبد العزيز الخياط، وقيل حينها إن خروجه جاء احتجاجاً على المشاركة الأردنية في مؤتمر جنيف الذي أعقب حرب ذلك العام. الفرحان ترأس قبل ذلك ومنذ العام 1964 قسم المناهج والكتب المدرسية في الوزارة بما يجعل منه ليس ابناً للوزارة فحسب، بل أحد بناتها وممن طبعوها بطابعه. يؤرخ كثيرون تولي الفرحان حقيبة التربية بأنه بداية عهد نفوذ الإخوان في الوزارة. يروي زياد أبو غنيمة في كتابه "الوزراء الحزبيون على خارطة الحكومات الأردنية" إصدار خاص العام 2005 أن آراء جماعة الإخوان انقسمت حول تولي الفرحان منصباً وزارياً، وكان الاتجاه الغالب هو الرفض، ما أدى الى تجميد عضويته في الجماعة حتى أوائل الثمانينيات. ويروي المؤلف عن فاروق بدران، أحد مؤسسي الجماعة وصهر الفرحان، ومن كان وراء تنظيمه في الجماعة حين كان الفرحان على مقاعد الدراسة في مدرسة السلط أواخر الخمسينيات، أنه قد عرض على الفرحان منصب وزير الأوقاف، فآثر التربية عليها، فكان أن تم إسناد الوزارتين معاً إليه. على المرء أن يلاحظ بأن وزارة التربية اقترنت لردح من الزمن بوزارة الأوقاف وحتى بموقع قاضي القضاة (المرحوم الشيخ إبراهيم القطان تولى وزارة التربية في حكومة وصفي التل الأولى العام 1962 الى جانب موقعه قاضياً للقضاة). وقبل ذلك تولى الشيخان المرحومان محمد علي الجعبري، ومحمد الأمين الشنقيطي،الوزارة التي تنشىء الأجيال.بما يدلل أنه كان هناك توجه رسمي لتغليب الطابع الديني على التعليم الأساسي. بهذا لم يكن مستغرباً أن يتولى الفرحان لثلاث مرات حقيبة التربية جنباً الى جنب مع وزارة الأوقاف. وهو ما يفسر (تاريخياً وبما يتعدى إشغال الفرحان للوزارتين) منحى المناهج المدرسية الذي يصفه كثيرون بأنه سلفي في بعض مواضعه (لا يعرف طالب المدرسة بعد التخرج منها وجود مذهب شيعي، والصراع على السلطة يفسر دائماً على أنه صراع ديني حول صحيح الدين). من اللافت أن أبا أحمد، ليس خريج الأزهر أو كلية شريعة، فقد درس العلوم في الجامعة الأميركية تخصص الكيمياء، وترأس الجمعية العلمية الملكية لعامين، ثم ترأس الجامعة الأردنية لعامين أيضاً (تولى المنصبين بين العامين 1976 و1980 ). في الفترة ذاتها أختير عضواً في المجلس الوطني الاستشاري، بذلك جمع في كيمياء خاصة به بين تخصصه العلمي، وتدينه العميق وميوله السياسية، الأمر الذي جعل منه رجل دولة ومجتمع، وقد اختير في العام 1989 عضواً في مجلس الأعيان. وهي الفترة التي شهدت تباشير مرحلة التحول الديمقراطي وإقبال سياسيين قدامى وجدد على الترشح للانتخابات النيابية. لم تمض أربع سنوات حتى كان الفرحان أول امين عام لجبهة العمل الإسلامي، وهو الذي لم ينتسب منذ يفاعته سوى الى الجماعة. وهي الفترة التي شهدت أفضل علاقة بين الحركة الإسلامية والدولة دون أن يكون الفرحان بالطبع، رجل حكومات. غير أن المآل الذي انتهت إليه الحركة الإسلامية بصعود تيارات متشددة، يغري بالمقارنة مع مرحلة الفرحان (وعربيات بعدئذ). علماً أن نقطة الخلاف المفصلية : توقيع المعاهدة مع تل أبيب كانت برزت آنذاك. وسجلت الحركة اعتراضها على المعاهدة في حينه، إلا أن الجسور ظلت قائمة مع الدولة ومع قوى سياسية عديدة (الوسطيين وكل من يطلق عليهم معتدلون). ليس الفرحان بعيداً فكرياً وأيديولوجياً عن الواقع الحالي للحركة الإسلامية.تشهد على ذلك طروحاته في المنتديات المحلية والخارجية ومنها موقعه المتقدم في المؤتمر القومي الإسلامي (إطار يضم تيارات قومية وإسلامية عربية) ومؤتمر الأحزاب العربية.الفرق أنه شخصياً رجل حوار يعامل من يختلف معه باحترام.هادىء الطبع، يبتعد عن التعبئة والشحن وإطلاق التصنيفات. وإلى ذلك يصفه قريبون منه بالوفاء لأصدقائه (ولأبناء الحركة)، وبالمرح ولطف المعشر. يسجل للحركة الإسلامية والفرحان منها أنها نجحت في التداول السلمي للقيادة،وهو ما أخفقت فيه إخفاقاً ذريعاً تيارات قومية ويسارية، وإخلاء الفرحان لموقعه القيادي أحد الشواهد الدالة.ويوازي ذلك نجاح الحركة في إنتاج قيادات جديدة بصرف النظر عن أي رأي فيها، وهو ما عجزت عنه تيارات "تقدمية" سارت عملياً على طريق "الزعيم الأوحد إلى الأبد". لم يعد الفرحان من الزعامات الرسمية للحركة، وإن ظل أحد رجالاتها البارزين.ويتصدى لمعارك مثل تغيير المناهج كما في مقابلة مطولة أجرتها معه "الجزيرة" قبل سنوات.والمشكلة في طروحات الفرحان وسواه، أنها إذ تتصدى لمحاولات فرض التغيير من الخارج، وهو موقف صائب وواجب، فإنها لا تولي عناية كافية لمبدأ تطوير المناهج وفق رؤية ذاتية وتلبية لحاجات موضوعية، فيغدو والحال هذه كل حديث عن التطوير بمثابة "شبهة" وخضوع لإرادة خارجية. يروي الفرحان أنه خاطب اليونسكو داعياً هذه المنظمة الدولية (التابعة للأمم المتحدة )للالتفات الى المناهج الإسرائيلية وما تزخر به من روح عدائية وتوسعية، وذلك رداً على مطالبات لليونكسو بإعادة النظر في المناهج المدرسية الأردنية. وهي كلمة حق يراد بها الحق ضمن هذا المنظور. على أن الهجمة الخارجية ينبغي أن لا تشكل تكأة للجمود وإبقاء القديم على قدمه، بل دافعاً للتطوير. هجمة الخارج ليست قيداً على الإصلاح بل حافزاً له، مع التحرر من فزاعة التساوق مع دعوات غربية. الأصل أن تتم الاستجابة لدواعي التقدم والنهضة، بصرف النظر عن الالتقاء أو التعاكس مع طروحات خارجية.وهو ما فعلته أمم حية وبالذات في آسيا. لم تتغير المناهج آنذاك، لكن التطوير سنة الحياة البشرية، وهو ما تشهد عليه أنماط حياتنا التي تغيرت بصورة تفوق الوصف.فلماذا يراد للمناهج وحدها أن تتأبد على ما كانت عليه؟. |
|
|||||||||||||