العدد 5 - اقليمي
 

روى هنري كيسنجر أنه زار دمشق في أثناء إعداده لمؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط الذي عقد في كانون الأول /ديسمبر 1973، واجتمع إلى الرئيس حافظ الأسد، وأطنب ساعات في الشرح له عن منافع المؤتمر وما سيتحقق لسورية من المشاركة فيه، وعن أهميته في إطلاق عملية سلام يمكن أن تحصل في أثنائها دمشق على ما لم يتيسر لها في الحرب التي كانت قد توقفت قبل أسابيع. وأوضح أن الأسد كان يستمع باهتمام ويومئ برأسه تجاوباً مع ما يغريه به الوزير الأميركي، بل وبانت عليه علامات الانشراح أحياناً، وحين همّ كيسنجر للمغادرة، عجب منه الأسد عن سبب عدم سؤاله ما إذا كانت سورية ستحضر المؤتمر أم لا، فأجابه أنه تبدّى له أن الموافقة حسمت في تجاوبه (الأسد) مع كلامه، غير أن الرئيس السوري باغته وأدهشه بالقول إن بلاده لن تحضر، وهو ما كان. ولأن المسافة الزمنية طويلة بين تلك الواقعة ومشاركة دمشق في مؤتمر أنابولس في 27 الشهر الماضي، ولأن تفاصيل كثيرة عرفتها محطات غير قليلة في أكثر من ثلاثين عاماً مضت، فإن المراقب لمسار التعاطي السوري مع «عملية السلام» والتفاوض مع « إسرائيل»، وما بينهما من إحالات إلى العامل الأميركي، يجد أن دمشق لم يكن في مقدورها دائماً أن تهتدي برفض حافظ الأسد حضور «جنيف» وبالكيفية التي أدهشت أشهر وزير خارجية أميركي.

ولأن الثبات على مسلك وحيد من دون الأخذ في الاعتبار المتغيرات المستجدّة ليس من السياسة في شيء، لم يكن ممكناً أن نقع على مثل دهشة كيسنجر مع من خلفه من وزراء الخارجية الأميركيين، وسعوا إلى أن تنخرط سورية في عملية التسوية في المنطقة، غير أن دمشق حافظت، إلى حد بعيد، وفي مختلف المحطات على أن تكون مشاركتها في أي تظاهرة دولية، أو أميركية على الأصح، من طراز «أنابولس» مثلاً، موضوعا للأخذ والرد، ولتفحص المكاسب والخسائر. ولم تكن يوماً في وارد الاستعجال أو التلهف على التفاوض أو الغرام بكاميرات التصوير. ويعثر المتابع لهذا المسار، أيّاً كان موقفه من النظام وطبيعته في سورية، على وقائع توفّرت فيها دمشق على مقادير غير قليلة من البراعة في الأداء التفاوضي والتداول السياسي وفي الثبات على مطالبها كاملة، وتحقيق المقتضيات التي تراها لازمة أمنياً ولوجستياً، كما دلّ على ذلك إخفاق لقاء جنيف بين الرئيسين بيل كلينتون وحافظ الأسد في العام 2000. من دون أن يعني ذلك عدم المضي في غير اتجاه السلام خياراً استراتيجياً والاحتكام إلى قرارات الأمم المتحدة، والاستعداد المشروط لإقامة علاقات طبيعية مع «إسرائيل» والتخفف من حمولة الموضوع الفلسطيني في بحث استرداد هضبة الجولان المحتلة، كما دلّ على ذلك بوضوح شديد خطاب وزير الخارجية السوري (في حينه) فاروق الشرع في افتتاح مفاوضات شيبردزتاون في كانون أول /يناير 2000.

تستنكف الولايات المتحدة عن إجراء حوار جدّي ومباشر مع دمشق في غير ملف، منذ طرح وزير الخارجية السابق كولن باول على الرئيس بشار الأسد في أيار /مايو 2003 ما اعتبرت شروطاً من واشنطن لبعث الحرارة في جسور التواصل. وما تزال الخطوات الأوروبية محدودة باتجاه مزيد من الانفتاح على سورية، وإن لم تعد على تلك الوتيرة الشديدة الفتور بعيد اغتيال رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005. أما ممكنات إحياء مسار التفاوض مع إسرائيل، فقد تبدت أنها في مقام المستحيل، بالنظر إلى توثيق دمشق تحالفها مع طهران، وتالياً بدلالة شن تل أبيب غارة في أيلول/ سبتمبر الماضي على موقع في داخل الأراضي السورية. وعلى الرغم من ذلك كله وغيره، أوضحت مفاعيل الموضوع اللبناني وإمساك دمشق بغير ورقة في الملفين العراقي والفلسطيني أن دمشق ما زالت لديها قدرات للمناورة، أو التذاكي أحياناً، في هوامش المساحات الضيقة والمتاحة، في سياق العلاقة مع الولايات المتحدة خصوصاً، وتالياً مع دول الاتحاد الأوروبي.

جاء لقاء «أنابولس» الأسبوع الماضي ليكون بالنسبة لها نافذة يمكن الإفادة منها في مراكمة مزيد من أسباب كسر تلك العزلة، وذلك الاستهداف السياسي الذي طالما لوّحت شخصيات أميركية متطرفة بتطويره إلى إسقاط النظام الحاكم في دمشق، وهو ما تأكد في غير منعطف في الأعوام الثلاثة الماضية أن لا قرار أميركياً محكماً في خصوصه، ليس فقط بالنظر إلى بؤس الحال العراقي بعد إطاحة صدام حسين، بل أيضاً بالنظر إلى ما بات يقيناً في دوائر صناعة القرار الأميركي أن لدى سورية ما يمكن الإفادة منه، بدليل المساهمة الأمنية الحيوية في ملفات تتصل بأفراد يحسبون إرهابيين، وبدليل المساهمة الأكثر وضوحاً في العراق، وكان من نتائجها دفع عشائر سنية بارزة في الأنبار إلى التعاون الأمني والعسكري مع القوات الأميركية المحتلة، وكذلك التعاون الجدي في سبيل خفض عمليات التقتيل والتفجيرات الشنيعة.

حضرت سورية في مؤتمر أنابولس، وتعمّدت أن يكون تمثيلها متدنياً، بعد أن ساقت على الرأي العام العربي أنها تمكنت من تحقيق مطلبها بوضع قضية احتلال الجولان على جدول أعمال المؤتمر، فيما اتضح أنه لا جدول أعمال كان هناك، وأن المؤتمر ليس للتفاوض ولا للدفع باتجاه وضع آليات لذلك.

ولم يأت جورج بوش في كلمته الافتتاحية إلى مسألة الجولان إطلاقاً، وكذلك فعل إيهود أولمرت، ما كان معناه أن حضور سورية كان مطلوباً لذاته، وإن رميَ لدمشق في سياقه وعد غامض بإطلاق مفاوضات بشأن الجولان في موسكو في وقت لاحق، من دون أي ضمانات أو وثائق جديّة بشأن مرتكزات هذه المفاوضات فيما لو حدثت. جاء نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى قاعة البحرية الأميركية، وصفق لخطابه الذي أكد فيه وجوب عودة الجولان كاستحقاق لسلام حقيقي في المنطقة وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك كثيراً. وصافحته كوندوليزا رايس، وطلبت منه نقل تحياتها إلى وليد المعلم. وكان قد أشاح بوجهه عن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني لما نظرت إليه، وبدا أنها تحاول افتعال مصادفة، فتصافحه وهي غير المصابة بالجرب، كما صرّحت لاحقاً. والبادي أنه لم يكن لدى القيادة السورية أية أوهام بشأن الجولان في أنابوليس، وإن لم تشهر وصف الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد له عشية عقده في اتصال هاتفي مع الأسد بأن المؤتمر تافه، وفي البال أن الصحافة السورية الرسمية رمته بنعوت بالغة السوء، وأكدت فشله قبيل انتظامه وفي أثنائه وبعد انفضاض سامره.

وإذا كانت سورية قد عمدت إلى التذاكي بشأن حضورها «أنابوليس» بإشاعة اشتراطها ذاك عن الجولان، في الوقت الذي كانت رغبتها في الحضور واضحة بسبب المكاسب السياسية البحتة التي تيّقنت من جنيها، فإن دوائر الإدارة الأميركية شهدت جدالاً في هذا الشأن، ففيما حرصت رايس على توجيه الدعوة إلى دمشق، رأى فريق نائب الرئيس ديك تشيني غير ذلك، كما أن مساعدها الأبرز في شؤون المنطقة إليوت أبرامز، وهو الموصوف بحدة ليكوديته، عارض الدعوة، وغاب لاحقاً عن حفل أنابوليس كله. وفي إسرائيل، تبارى أولمرت وباراك من يكون صاحب فكرة جرّ سورية إلى الحفل المذكور، على ما كتبت صحف عبرية، منها «معاريف» التي أوردت أن موسكو تنقل حالياً رسائل بين دمشق وتل أبيب من أجل إحياء مسار التفاوض بينهما.

ويمكن عطف ذلك إذا كان صحيحاً على الإشارات غير القليلة التي رمت بها دمشق نحو الولايات المتحدة بحضورها «أنابوليس» (ولو بفيصل مقداد)، والتي منها إمكانيات الحلحة التي وفرتها في معضلة الرئاسة اللبنانية، حيث بدأ الاتجاه إلى ترئيس قائد الجيش العماد ميشال سليمان مع ساعات افتتاح «أنابوليس» نفسه، ومنها أيضاً إمكانيات عدم التطابق في الرأي مع الحليف الإيراني. ولذلك كله، لا يعود ذا صدقيّة وصف سورية بأنها دولة ممانعة فيما الآخرون في محيطها العربي معتدلون، فقد أوضح مستشار الأمن القومي الأميركي ستيفن هادلي أن دولاً أعضاء في جامعة الدول العربية ألحت على حضور سورية، فدعوناها ولم نخسر شيئاً. وهذا حقيقي، غير أن الأجدى بالنظر أن سورية كسبت، لا سيما وأن أحوالها الراهنة لا يمكن أن تجعل دهشة مثل التي أصاب بها حافظ الأسد هنري كيسنجر قبل 33 عاماً ممكناً تكرارها.

ماذا ربحت دمشق؟ - معن البياري
 
06-Dec-2007
 
العدد 5