العدد 29 - ثقافي
 

عواد علي

دفعت نكسة حزيران العام 1967 بعض المبدعين العرب إلى إجراء مراجعة شاملة للأسس والمرجعيات التي يقوم عليها الإبداع الثقافي العربي لتجاوز الخلل الذي ينتابه، والانتصار على ضعفه، فظهرت جملة بيانات وتنظيرات وجماعات تدعو إلى التخلي عن تلك الأسس والمرجعيات، وتأسيس مشاريع إبداعية وفكرية تتسم بـ (الأصالة، والتأصيل، والتأسيس)، وتستند إلى روح المجتمع العربي المعاصر، وهويته القومية، وتراثه الحضاري، وتكسر المفهوم الانعكاسي في الثقافة، أو التبعية لمراكز خارجية، وبخاصة الغربية منها.

ولعل المسرح كان أكثر الحقول الإبداعية التي شهدت ردة الفعل هذه بسبب طابعه الجماهيري، والتصاقه بإيقاع الحياة ونبضها من جهة، ووقوعه بشكل مباشر تحت هيمنة مرجعيات وأسس ومدارس مسرحية غربية من جهة أخرى.

ومن أبرز البيانات التي قدّمت تنظيرات متقاربة، في توجهها، لمسرح عربي متحرر من طغيان الأدب وقوانينه البنائية وإكراهاته الأسلوبية، وينهل من المنابع وأشكال الفرجة المسرحية، أو يقوم على نسق الفريق والطاقم المسرحي المتكامل، وينقلنا من إطار التمثل المجرد إلى إطار الإدراك: بيانات لمسرح عربي جديد لسعدالله ونوس عام 1970، وهي من أكثر البيانات تمثلاً للوعي الجديد الذي تشكّل في المشهد المسرحي العربي، وربما في المشهد الثقافي العربي بشكل عام، في أعقاب نكسة حزيران، أما البيانات الأخرى فقد كانت، في أغلبها، باستثناء البيان الاحتفالي، استجابة لسؤال الهوية الذي فرضته الممارسة المسرحية العربية، والتجارب المسرحية العالمية على المشتغلين في حقل المسرح، وإذا ما وجدت صلة بينها وبين ثقافة مابعد النكسة فإنها صلة غير مباشرة، إلاّ إذا نظرنا إلى سؤال الهوية بوصفه بحثاً في إمكانيات ترميم، أو إعادة بناء الذات القومية التي هشمتها النكسة.

لقد اتسمت بيانات سعد الله ونوس بالمنهجية، منطلقاً من رؤيته الماركسية، رغم اعترافه بأنها رؤوس أقلام وليدة تجربة قصيرة في الممارسة المسرحية، لموضوعات تحتاج إلى وقفات أطول حتى يستوفيها البحث، ويعمق ما تمس من قضايا وشؤون مسرحية وثقافية، أو فروض للبحث عن مسرح أصيل يعي دوره في بيئته، ويحاول أن يستوعب هذا الدور، ويضطلع به.

وقد شكّل الجمهور الهاجس الأول لونوس، لأنه يعدّه المدخل الأساسي والصحيح للحديث عن المسرح وتبلوره وإشكالياته، فهذا الفن يمتاز عن بقية مظاهر النشاط الثقافي بأنه في جوهره "حدث اجتماعي" منذ نشأته، وهو في أصله وأبسط أشكاله متفرج وممثل قد يندغمان معاً في احتفال، أو يظلان الواحد منهما في مواجهة الآخر.. المسرح، من وجهة نظر ونوس، يبدأ فعلاً عندما يتوافر ممثل ومتفرجون يتابعون لعبة الممثل، أو يشاركون فيها، وغياب أحد هذين العنصرين فقط هو الذي ينفي الظاهرة المسرحية، في حين أن كل العناصر الأخرى التي انضافت إلى الظاهرة، وخلال مراحل متدرجة من تاريخ تطورها، النص، الإخراج، المؤثرات، وغيرها لا يؤدي غيابها إلى نفي الظاهرة المسرحية بمعناها الأساسي.

وبعد تحديد هوية الجمهور، تركيبه الاجتماعي، ظروفه الثقافية، مشاكله وصورمعانته تنبثق الأسئلة، حسب ونوس، عما يراد القول له، وأسلوب الاتصال به، والوسائل التي ينبغي أن تستخدم لتحقيق تفاعل أكيد معه، فلا يكفي أن يصرّح المسرحي، راكباً موجة الاتجاه العام، بأن الجمهور الذي يتوجه إليه هو الطبقات الكادحة، ثم لا يفعل بعدئذ إلاّ أن يقدّم في غرف مغلقة، وأمام خمسين أو مائة من «النخبة» أو «الطليعة» أعمالاً عبثيةً عن الأزمة الميتافيزيقية للإنسان في الكون، بل عليه أن يقدم لها مسرحاً شعبياً ملتحماً بها، نابعاً من ظروفها، يشتمل، إضافةً إلى المتعة، على فعالية تنمية وعيها، وإدراكها لمصيرها التاريخي المشترك، ولمشاكلها وقدرها الاجتماعي، ووعي حاجاتها، وأنماط تفكيرها، وطرائق فهمها. وبذلك تنتهي، كما يرى ونوس، واحدةً من دوامات التخبط التي يتوه فيها مسرحنا العربي.

وبما أن المسرح الذي يدعو إليه ونوس ينطلق من واقع الجمهور العربي، ويريد له أن يحقق أعلى درجات الاتصال به، والتأثير فيه، فإنه مضطر، في رأيه، إلى القيام ببحث جاد ويومي عن تجربته الخاصة في التعبير المسرحي، عن أسلوب ولغة وشكل، وأمامه أفق واسع للاختيار والتجريب، كما أن لديه إرثاً غنياً من الأشكال وأنماط التعبير الشعبية (الفولكلورية) يمكنه الإفادة منها، وتوظيفها بطريقة أجدى وأسلم من تلك التي يتبعها أؤلئك الذين يريدون أن يبنوا ثقافةً على الفولكلور، أو يستجيبوا فقط لدواعٍ سطحية في التجديد، وتجريب الأشكال.

إن ونوس في فهمه للمسرح، حسبما تكشف بياناته هذه، لا يبدأ من نقطة الصفر، بل يكمل ما بدأه الرواد، إذ يقول إنهم كانوا يدركون، ولو فطرياً، طبيعة المسرح كظاهرة اجتماعية تنشأ بين الناس، فلم يربكوا أنفسهم بالصيغ الجاهزة، بل أخضعوها إلى إحساسهم الخاص بجمهورهم، وظروف هذا الجمهور، ونوعيته ومشاكله. وعلى أثر ذلك يرى أن المسرح هدفه شحن المتفرج، وليس تسليته، أي أنه مسرح التسييس، وليس السياسي، وهذا يتطلب أن يكون المتفرج واعياً لأهميته، فاعلاً في واقعه، ومتخذاً موقفاً نقدياً من العرض، على غرار المتفرج في المسرح الملحمي الذي أسس له بريشت. وكانت مسرحية ونوس (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) التي كتبها العام 1969، تطبيقاً، سبق هذا التنظير، للعلاقة التفاعلية بين الصالة والخشبة، بين المتفرج والعرض المسرحي.

لقد كان أحد أهداف ونوس الرئيسة من بياناته هو تجاوز ما كتبه توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وعلي الراعي، بل وإلى تعرية الزيف الذي كانت جلّ المسرحيات العربية تغرق فيه، وبخاصةً ما اتصل منها بهموم «حزيرانية» تغلب عليها الشكوى والأنين والتفجع في غياب المنظور العلمي الواضح المتمكن من سبر غور الواقع، وتشخيص أسباب الهزيمة.

بيانات لمسرح عربي جديد
 
05-Jun-2008
 
العدد 29