العدد 29 - حريات | ||||||||||||||
طالب السقاف* يصادف هذا العام الذكرى الستين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الثاني/ديسمبر 1948. الأمم المتحدة أعدت برنامجاً خاصاً باحتفالية الذكرى الستين للإعلان تحت شعار "العدل والكرامة للجميع". هذا الشعار يعكس جوهر المبادئ والقيم التي يقوم عليها الإعلان العالمي بدءاً من الاعتراف بالكرامة المتأصلة في بني البشر مروراً بالمساواة التامة بين الناس جميعاً أمام القانون وفي فرص التمتع بالحقوق دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الأصل الاجتماعي أو الثروة أو أي اعتبار آخر. هذا الشعار يكرّس عالمية حقوق الإنسان وأنها من حق البشر جميعاً دون اعتبار للحدود السياسية والجغرافية وطبيعة أنظمة الحكم، ومستويات التطور والنمو الاقتصادي والمعرفي للشعوب والجماعات والأفراد. وربما يكون السؤال الأهم الذي يستثيره هذا الشعار هو: هل حققت البشرية بمنظوماتها الدولية والأقاليمية وأنظمتها الوطنية، الكرامة والعدالة للجميع، أم أنهما ما زالتا مطلباً ملحاً للجميع بعد ستين سنة من الإجماع الدولي على الاعتراف بحقوق الإنسان وفق ما تضمنها الإعلان؟. أحداث كثيرة وتطورات مهمة تلت إصدار ذلك الإعلان العظيم امتدت عبر ستين سنة، وإن كانت قد تركزت في الثلاثين سنة الأخيرة بدءاً من عام 1976 الذي أعلن فيه عن نفاذ اتفاقيتين دوليتين ملزمتين، هما: العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية اللذان باتا يشكلان مع الإعلان العالمي ما يعرف بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان. توالت جهود المجتمع الدولي لتعزيز الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بعدد من الاتفاقيات والإعلانات والقواعد والمدونات والأدلة ذات الأثر الفعال في تحقيق مقاصد الإعلان العالمي حتى تجاوز عدد الصكوك الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان الخمسمائة وثيقة، كان آخرها اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة للعام 2007، هذا عدا عن الجهود الإقليمية لحماية حقوق الإنسان وتعزيزها، وأبرزها جهود دول الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي وآخرها جهود جامعة الدول العربية التي أسفرت أخيراً عن إقرار الميثاق العربي لحقوق الإنسان في قمة تونس العام 2004 ونفاذه الفعلي في 16 آذار/مارس2008 بعد اكتمال تصديق سبع دول عربية عليه!. المثير للاهتمام في هذا الحدث هو أن جامعة الدول العربية تعتبر أقدم منظومة دولية إقليمية، إذ أنشئت الجامعة في أيار/مايو 1945 أي قبل ستة أشهر من إنشاء الأمم المتحدة، لكن المنظمة الدولية وضعت إعلانها بعد ثلاث سنوات على إنشائها، في حين وضعت الجامعة العربية ميثاقها بعد أكثر من 60 سنة على إنشائها، ما يعكس الأهمية والقيمة التي تحظى بها حقوق الإنسان في كل من المنظومتين الدولية والقومية العربية. وباعتباره الحدث الأبرز في مجال حقوق الإنسان على المستوى العربي، أثار صدور ونفاذ الميثاق العربي في هذا الوقت وعلى هذه الصورة، انتقادات شديدة حتى من جانب النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، وأعتبر في أفضل حالاته تكراراً مجتزءاً ومشوهاً لنصوص ومعايير دولية تضمنها الإعلان العالمي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها معظم الدول العربية قبل سنوات من نفاذ الميثاق. الانتقادات تضمنت ايضاً أن الميثاق لا يشتمل على آليات رقابية أو حمائية لضمان التزام الدول العربية بأحكامه من مثل لجان المراقبة أو آلية قبول شكاوى الأفراد أو إنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان. وأخيراً،هناك الانتقاد الشديد الذي وجهته المفوضة السامية لحقوق الإنسان لويز آربور (30 كانون الثاني/يناير) لما تضمنه الميثاق في مادته الثانية من مساواة للصهيونية بالعنصرية والدعوة للعمل على القضاء عليهما، باعتبارها تتعارض مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/86 (انظر الموقع الإلكتروني للمفوض السامي لحقوق الإنسان). ومهما يكن من أمر، فإن وجود ميثاق عربي لحقوق الإنسان يعتبر خطوة أساسية وضرورية لبناء نظام إقليمي فعال لحماية حقوق الإنسان وتعزيزها في منطقة تعج بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بدءاً من الحرمان من الحق في الحياة، مروراً بممارسات التعذيب وسوء المعاملة والاتجار بالبشر والتمييز بمختلف صوره وأشكاله، وليس انتهاء بالحرمان من سبل العيش الكريم والحق في التنمية والرفاه والأمن، ناهيك عن القيود التي لا حصر لها لحرية التعبير والمعتقد والتجمع والمشاركة في إدارة الشؤون العامة للدولة. وبالعودة إلى سؤال الكرامة والعدالة وما تحقق منهما للجميع أو لنا كعرب على الأقل، نجد أننا ملزمون بمراجعة منجزاتنا الوطنية في ظل 60 سنة من عمر الإعلان العالمي للوقوف على واجبات الدول والمجتمعات تجاه المعايير الدولية لحقوق الإنسان والتي التزمت بها وما تحقق منها لضمان الكرامة والعدالة للجميع . ولتبسيط فكرة المراجعة وآلياتها يمكننا تحليل واجبات الدول بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان عبر ثلاث منظومات كبرى، هي: 1 - منظومة الاعتراف: تشمل واجب الدول في احترام حقوق الإنسان المعترف بها لكافة الأشخاص الخاضعين لولايتها القانونية دون أي تمييز من أي نوع. يدخل في هذه المنظومة واجبات الانضمام للاتفاقيات الدولية وإنفاذها على المستوى الوطني وتعديل التشريعات الوطنية بما ينسجم مع المعايير الدولية، ونشر الاتفاقيات على الملأ وجعلها أساساً في عمل السلطات العامة وجزءاً من واجبات الأشخاص المكلفين بتطبيق القانون... إلخ. فهل قطعنا باعترافنا بحقوق الإنسان شوطاً تحققت معه الكرامة والعدالة للجميع؟ 2 - منظومة التمكين: تشمل ما ينبغي على الدولة اتخاذه من تدابير تشريعية وتنفيذية، وقضائية، وتربوية، وإعلامية، وتدريبية وغيرها لضمان تحقق القدرة الفعلية لكل شخص خاضع لولايتها القانونية من التمتع الحر بحقوق الإنسان المعترف بها دون أي قيود غير معقولة أو تنتقص من جوهر الحق ... إلخ. فهل اتخذت دولنا ما يلزم من تدابير فعالة لتمكين رعاياها من التمتع الحر بحقوق الإنسان بكرامة وعدالة؟ 3 - منظومة الحماية: وقوامها تدابير قضائية وغير قضائية تضمن حماية أي شخص من أي تعرض أو منع أو قيد غير محق يحد من حريته بالتمتع بحقوقه المعترف بها وضمان آليات فعالة لإنصاف أي شخص تنتهك حقوقه بما في ذلك ملاحقة الجناة وضمان عدم إفلاتهم من العقاب وتعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم ... إلخ، فهل لدينا وسائل إنصاف فعالة تضمن حماية الكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة في اكتساب الحقوق والتمتع الحر بها وحمايتها من أي تعرض؟ ربما تكون الإجابة أننا قطعنا شوطاً معقولاً في الاعتراف بحقوق الإنسان كما تضمنتها المعايير الدولية، وما تضمنته دساتيرنا وتشريعاتنا خير دليل على ذلك، وأن ما لم نعترف به من الحقوق والحريات هو قسم ضئيل أملته مقتضيات دينية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو أمنية. كما أن لدينا منظومة تدابير وطنية تمكن من التمتع بحقوق الإنسان وإن كان يشوبها بعض القصور أو تتآكلها أشكال من الفساد، ولدينا آليات الحماية اللازمة وإن كان يشوبها بعض الضعف من نوع عدم الاستقلال أو النقص في الكفاءة أو غيرها من الأسباب والعلل. والحقيقة أن أحداً لا يضمن أن يكون الجواب: أننا حققنا الكرامة والعدالة للجميع، وأن التمادي في ادعاء مطابقة التدابير الوطنية للمعايير الدولية في أي من منظومات الالتزام الثلاث، وإن بمسائل فرعية، ينطوي على إغفال لخاصية أساسية من خصائص حقوق الإنسان وهي ترابطها بشكل يجعل من العسير الحديث عن منجزات في الحقوق المدنية دون السياسية أو بأي منهما دون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا التمادي سيوقعنا في وهم تحقيق الهدف المنشود وهو هنا "تحقيق الكرامة والعدالة للجميع". إن الأفضل لمثل هذا الهدف أن يظل شعاراً / حلماً من أن يكون واقعاً منقوصاً لدرجة الحرمان. (*) محام. مقرر لجنة خبراء حقوق الإنسان/جامعة الدول العربية. مدير مرصد الإنسان والبيئة/الأردن. |
|
|||||||||||||