العدد 28 - ثقافي
 

جهاد هديب

إنها منطقة عتم كبيرة، وفجوة تفصل بين العمل التشكيلي بين المتلقي، بوصفه متذوقاً للعمل الفني، على الأقل، لا قارئاً بمقدوره إعادة إنتاجه تأويلياً. ويبدو أن قدر اللوحات في صالات العرض المتخصصة في عمان، أن تبقى وحدها على الجدران دون فعل تلقٍ حقيقي بعد حفلات الافتتاح التي لا يتجاوز عدد الحاضرين فيها الثلاثين أو الخمسين في أفضل الأحوال، وذلك يصرف النظرعن المدرسة الفنية التي تنتمي إليها اللوحة أو تقترب منها.

هذه الإشكالية تربوية، في أساسها، تكمن في العقل التربوي الذي غاب عنه الوعي بضرورة أن يتاح التذوق الفني في مراحل التربية الأولى.

يحيل الرسام محمد الجالوس، الذي عمل مع الطلبة في مراسم جامعة فيلادلفيا «غربة اللوحة عن المتلقي إلى خلو العقل التربوي من أي اهتمام بالفنون التشكيلية إجمالا، فضلاً عن أن ما هو متوافر في المناهج المتعلقة بمادة الفن التشكيلي في التربية الفنية، يعمل على شدّ الطالب بعيدا عن الفنون إجمالا».

وهذا ما يتفق معه الرسام عبد الرؤوف شمعون، الذي ساهم سابقا في تأليف مناهج التربية الفنية لمدارس وزارة التربية والتعليم بقوله «لا صلة مباشرة للمادة التي تعطى للطالب بالفن التشكيلي بكل تفريعاته سواء على المستوى التذوقي أو على مستوى فهم العناصر التي يتكون منها العمل التشكيلي ومكوناته بأسلوب يتلاءم مع عقلية الطالب وعقلية المدرس، ما يعني أن هذه المناهج لا تساهم في تغيير الذهنية السائدة في المجتمع تجاه الفنون إجمالا، هذه الذهنية التي يتمثل رد فعلها تجاه الفنون بكلمة واحدة هي: الإهمال».

بالفعل، إنه أمر واسع، ومن الصعب الإحاطة به، غير أن اختصار الحصص المدرسية لمادة التربية الفنية من ثلاث في الأسبوع إلى حصة واحدة، وإلغاء إدراج علامة التربية الفنية في المعدل العام للطالب، أفسدت فرصة دفع الطالب لتذوق صورة ما أو أي عمل إبداعي، على هذا يقول الفنان رزق عبد الهادي، مدرس هذه المادة في إحدى المدارس الخاصة: « لقد أفرغت الوزارة بفعلها هذا قيمة وأهمية تذوق العمل الفني إجمالا، في الوقت الذي لا يعي فيه الطالب أو الأهالي القيمة الحيوية والخطيرة لمادة التربية الفنية، وأثرها على مستوى إبداع الطالب في المواد الأخرى ذلك أنها تحفز المخيلة، ومن ثم الرغبة في التميز والتقدم في المواد الأخرى. إن الطلبة المتفوقين في مادة التربية الفنية في مدارسنا هم الطلبة أنفسهم القادرون على التميز في المواد الأخرى».

يحمل الرسام عبد الرؤوف شمعون، كل الأطراف مسؤولية ضعف وفتور تلقي العمل الفني، ويتفق مع الفنان رزق عبد الهادي في الأثر السلبي الذي تركه قرار الوزارة، ويذهب أبعد من ذلك بالقول: « لقد سألت وزيرا سابقا عن جدوى أن تكون هناك كليات للفنون في الجامعات الرسمية وغير الرسمية، في حين يصاحب ذلك إهمال في إدراك القيمة التربوية والإبداعية لمادة التربية الفنية في المدارس؟ ما الحال التي سيصل بها الطالب إلى مستوى جامعي لجهة علاقته بأي عمل إبداعي؟» شمعون يرى أن ذلك أدى إلى إضعاف علاقة أي طالب باللوحة فضلا عن «أن هناك مشكلة في طريقة تقديم المادة للطالب» التي أصبحت مساقاً دراسياً كغيرها ولا تعتمد على دليل المعلم الذي تصدره وزارة التربية والتعليم فقط.

أما الرسام محمد أبو زريق، الذي مارس مهنة تدريس مادة التربية الفنية لأكثر من عشرين عاماً، فيضيف إلى جملة الأسباب التي ذكرت، سببا آخر «حصة الفن لا احترام لها، بل هي حصة يقوم الطلاب خلالها بتنظيف ساحة المدرسة من الأوراق وسواها من المهملات؛ حصة لاستكمال النصاب، وإذا كانت من نصيب أستاذ مادة التربية الدينية فستخضع للنظرة السائدة تجاه الفن القائمة على أساس الحلال والحرام، وبإهمال شديد لأثرها على تفتح ذهنية الطالب على العالم وعلى المعرفة». ويضيف الرسام أبو زريق: «الثلاثون أو الخمسون، هم جمهور افتراضي للفن التشكيلي، لأنهم يتكررون في المعارض كلها، أنت لا ترى سوى الوجوه نفسها التي رأيتها في آخر معرض جرى افتتاحه».

وفي حين يلاحظ الفنان عدنان يحيى، أن الطلبة العراقيين الذين يدرسهم يمتلكون حساسية أعلى من أقرانهم الأردنيين تجاه العمل الفني إجمالا، فإنه يؤكد « غياب المدرس صاحب الاختصاص عن تدريس مادة التربية الفنية يسبب، في آخر الأمر، مشكلة للرسام الذي يبقى غريبا عن المجتمع. ذلك أن الضعف في العلاقة بين اللوحة والمتلقي، تبدأ من الضعف في فهم اللوحة ومدى النظر بجدية إلى الإبداع والمبدعين إجمالا وليس اللوحة وحدها».

أما بما يتصل بالمدارس الخاصة، فيرى الفنان عبد الرؤوف شمعون أن اختلافها عن المدارس الحكومية، ليس كبيراً وأن الأمر يتحدد في مدى الإجابة عن سؤال من هذا النوع: «هل تتوافر في هذه المدارس، الإمكانيات الحقيقية بحيث يصبح من الممكن ممارسة تدريس مادة التربية الفنية بطريقة سليمة؟» بحسب الفنان شمعون الذي لا يجيب عن هذا السؤال بل يلاحظ أن الطلبة الذين يرتادون المعارض هم من المدرسة أو الكلية ذاتها التي يعمل فيها الفنان صاحب اللوحة التي جاءوا لزيارتها. وبهذا فإن اللوحة ليست هي المقصودة بالمتابعة والتأمل وممارسة التجربة الجمالية بل المقصود هو الفنان ذاته مدرس مادة التربية الفنية في هذه المدرسة أو تلك الكلية!». وربما هذا ما قصده الرسام محمد الجالوس عندما حمّل الفنان جزءا من المسؤولية تجاه صنيعه الفني وعدم جديته في الاشتغال على مشروعه الخاص والاهتمام بتطويره والكفّ عن مديح ذاته وتغييب الفنانين الآخرين أو النميمة عليهم، في مجتمع لا تتجاوز نسبة المعنيين فيه بالإبداع إجمالا 10بالمئة، وهي نسبة كارثية برأيه.

من الواضح أن المشتغلين بالفن الباحثين عن موارد العيش في تدريس مساق التربية الفنية هنا أو هناك، لا يجدون أفقا بعيدا عن قرار رسمي يخلخل العلاقة السائدة بين الفن والمتلقي بدءا من نقطة الصفر التي هي المدرسة، ويفك عزلة اللوحة مروراً بمنهاج يستطيع عبره الطالب أن يدرك بصرياً وتخييلياً الانحراف الجمالي في هذه الصورة أو تلك بحيث يعزز ذلك من مقدرته على تذوق الجمال، الذي يحسّن من أدائه في الحياة حيث هنا تكمن الغاية العميقة والحقيقية للفنون، فيعيش الفرد بشكل أفضل وتكون خياراته في الحياة أكثررهافة ومرونة؟.

وإلى أن يدرك صاحب القرار ا المعنى العميق لدور الفنون في خلق إحساس الفرد بفرديته، ستبقى اللوحة قابعة هناك في العتمة لا تدركها الأبصار إلا خطفاً أو بالتماعة وعي "شقي".

اللوحة..كم هي غارقة في وحدتها وهامشيتها !
 
29-May-2008
 
العدد 28