العدد 27 - أردني
 

حسين أبورمّان

وجد المجتمع الأردني نفسه في حالة من الذهول أمام اضطراره أن "يتجرّع" كأس سياسة تحرير أسعار المشتقات النفطية في أجواء الارتفاعات المتوالية عالمياً في أسعار الطاقة، وكذلك في عدد كبير من المواد الغذائية.

المواطنون راحوا يتطلعون، بعين، إلى الدولة لعلهم يجدون لديها حلولاً لهذه المشكلة من خلال اكتشاف وإنتاج البترول، أو من خلال استخراج النفط من الصخر الزيتي، أو ما شابه ذلك، وبالعين الأخرى إلى الجامعات، بما لديها من مختصين وخبراء، لعلهم يجدون لديهم تفسيراً لما حدث، وذلك في إطار دورهم في تنوير الرأي العام بحقيقة المصاعب التي تواجه البلاد وسبل تجاوزها.

لكن، مثلما تأخرت الدولة في وضع حلول للمشكلة، غابت الجامعات عن المشهد كدأبها في المنعطفات الخطيرة التي يشهدها المجتمع بين آن وآخر، فنادراً ما سمع رأي أكاديمي صادر عن الجامعة، بوصفها، مركزاً للبحث إلى جانب كونها مكاناً للتعليم، في أي من القضايا المهمة التي ثارت في تلك المنعطفات، وقلما تصدى الجهاز الأكاديمي لتحليل الظواهر التي يشهدها المجتمع التي تشكل تحديات على المجتمع التعامل معها للانطلاق نحو التقدم والازدهار.

حول غياب الأكاديميين والجامعات عن التأثير في المحطات المفصلية التي يشهدها الوطن، يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية موسى شتيوي، إن من الظلم الحديث عن غياب الأكاديميين. فالغياب الحاصل هو غياب مؤسسي، بينما المساهمات الفردية كثيرة، لكنها لا تطرح بطريقة مؤسسية، بل تؤدى بطريقة فردية، ومن أمثلة ذلك تعاون الأكاديميين مع مختلف الوزارات ومع برامج الأمم المتحدة.

نوابّ حاولوا من جهتهم أن يتأكدوا من حقيقة وجود البترول في الأردن من عدمه، فطلبوا عقد جلسة مناقشة عامة (30/3)، فاستجابت الحكومة، وقدمت ما لديها من معلومات وخطط، لكن نواباً كثيرين خرجوا من الاجتماع بدون قناعات حاسمة، فكلف المجلس لجنة الطاقة والثروة المعدنية فيه، بأن تأتيهم بالخبر اليقين، لا سيما أن عدداً مهماً منهم بقي متمسكاً بافتراضه وجود بترول في المملكة بالنظر إلى وجوده في بلدان مجاورة، أو بافتراض وجود مؤامرة خارجية تدفع الشركات إلى إخفاء اكتشافاتها من النفط.

في أجواء عدم اليقين هذه، بادر عميد البحث العلمي في جامعة البلقاء التطبيقية المختص بحفرة الانهدام الأردنية عبد الله الزعبي، إلى عقد مؤتمر صحفي (21/4) لينفي وجود النفط في منطقة البحر الميت، وليعلن فيه أن ما يشاع عن وجود اكتشافات نفطية بكميات كبيرة تتراوح ما بين 500 مليون برميل إلى بليون ونصف البليون برميل، كما تدعي بعض الجهات، عار عن الصحة تماما، نظراً لمحدودية التراكيب الجيولوجية وعدم كفاية سماكة الطبقات الرسوبية التي تحتوي على النفط، وخصوصاً تراكيب منطقتي عسال والموجب.

ما قام به الزعبي يمكن أن يتخذ نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه الأكاديمي من حيث توظيف المعرفة والخبرة التي يملكها في خدمة المواطن، لا سيما في القضايا الكبرى، ومنها القضايا التي تثير انقساماً في الرأي العام. لكن إسهام الزعبي، رغم المكانة العلمية للرجل الذي يحمل الدكتوراه في الهندسة الجيوفيزيائية، أخذ طابع المبادرة الذاتية، ولم يكن صادراً عن الجامعة بوصفها مؤسسة بحثية ومركزاً علمياً لا يقتصر دورها على التعليم، بل يتعداه إلى الانشغال بقضايا الوطن والمواطن، ويتطلب وجودها في كل منعطف خطير يواجهانه.

قبل هذه المبادرة بأسبوع، كان نبيل الشريف، رئيس تحرير صحيفة الدستور ووزير الإعلام الأسبق، يتأمل مشهد اختلاط الأمور، بعد أن «أصبح الجميع يفتي بعلم وبدون علم، وتحولنا جميعاً بين يوم وليلة إلى «خبراء» في الطاقة والنفط والأسواق والعملات الأجنبية وأسعار القمح العالمية،» بحسب مقالة للشريف نشرها في صحيفة الدستور في (15/4) بعنوان «الصامت الأكبر». يقول الشريف «محزن إلى حد الفجيعة انسحاب الجامعات من المشهد الوطني وانكفاؤها على أنفسها وانقطاع تواصلها مع ما يجري في الوطن من قضايا وأحداث». ويعلن استغرابه من أن كل من لديه رأي يبديه إلا الجامعات، واصفاً إياها بـ « الصامت الأكبر، والشاهد الذي يرى ويسمع ولكنه لا ينطق».

ويتساءل الشريف «هل من المصلحة أن تغيب الجامعات عن هذا الحوار الوطني ولا تقدم رأيها العلمي القاطع فيما يجري، وألا يقوم الأساتذة المختصون فيها بتقديم الدراسات وسيناريوهات الخلاص من الأزمة إلى صانعي القرار؟».

الأكاديمى موسى شتيوي يرى أن الغياب عن الشأن الوطني يقتصر على الجامعات، أما الأكاديميون أنفسهم فهم ليسوا غائبين. وينتقد غياب الأطر المؤسسية التي يمكن أن تستفيد من إمكانيات بعض الأساتذة بطريقة منهجية، عبر إيجاد قنوات محددة لتوظيف الطاقات الجامعية في خدمة القضايا الوطنية.

ويستشهد شتيوي على ذلك بغياب المراكز المتخصصة (Think Tanks) في الجامعات، وهو لا يرى أن مراكز الدراسات في الجامعات تؤدي هذه الوظيفة المنشودة. ويضيف: «هنالك عشرات القضايا الوطنية المهمة، ومع ذلك لا نسمع بمساهمات هذه المراكز في الحياة العامة، لأن مساهماتها تكون في مجالات محددة ومعروفة، إذ تقوم بأدوار تثقيفية وتوعوية عامة.» ولكنه يرى أيضا أن هنالك بعض الاستثناءات، في إشارة إلى «بعض ما أنتجه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، مثل تقريريه حول معان، وحول العلاقات الأردنية الفلسطينية.»

ويعتقد شتيوي أن تمكين الجامعات من أن تؤدي دوراً متميزاً في قضايا الحوار الوطني بحاجة إلى أن يصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة التعليم ككل في الجامعات.

مثل هذه التساؤلات حول دور الجامعات، كانت تثار أيضاً في كل المحطات الفاصلة خلال العقدين الماضيين على الأقل، فالجامعات كانت غائبة تماماً، عن رصد تطور المديونية الخارجية التي أدت العام 1988 إلى انهيار سعر صرف الدينار الأردني إلى النصف مقابل الدولار، ما شكل مقدمة لالتزام المملكة ببرنامج للتصحيح الاقتصادي فرضه صندوق النقد الدولي من أجل السماح للأردن بجدولة ديونه بشروط ميسرة.

من بين هذه المحطات أيضاً، اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، بما تنطوي عليه ليس فقط من مضامين سياسية، بل أيضاً من مضامين اجتماعية واقتصادية وتقنية، وبخاصة ما يتصل منها بقضايا مثل: المياه، والتيار الكهربائي، والتبادل التجاري مع السلطة الفلسطينية.

الحكومة اهتمت بإبراز ما اعتبرته مكاسب أو جوانب إيجابية في المعاهدة، فيما كان الرأي العام يخشى من أن يكون إبرام المعاهدة قد تم على حساب الأردن وشعبه. دور الجامعات في هذه المرحلة كان مهماً لمساعدة صاحب القرار في الإحاطة المعرفية والعلمية اللازمة بالقضايا المطروحة، وتنوير الرأي العام بحقيقة مضامين المعاهدة، حتى لا يبقى ضائعاً بين تفسيرات وتأويلات أيديولوجية، أكثر منها علمية، بعضها مع المعاهدة وبعضها الآخر ضدها.

محطة أخرى غاب عنها الأكاديميون، تتعلق بالمرحلة الحساسة التي شهدت رحيل الملك الحسين بن طلال، وانتقال العرش إلى الملك عبدالله الثاني الذي لم تكن إمكانياته معروفة للأغلبية الساحقة من المواطنين بالنظر إلى خدمته المتصلة بالجيش، و بخاصة أن المرحلة التي تولى فيها الحكم كانت تحتاج إلى من يسخر علمه لاستشراف آفاق المستقبل.

ولئن كان هناك تبرير لتجنب الجامعات الاقتراب من القضايا ذات الطبيعة الساخنة والملفات الإشكالية، بسبب حالة الأحكام العرفية التي كانت مفروضة على البلاد عام 1967، بعيد احتلال الضفة الغربية، فإن الوضع تغير منذ الانفراج السياسي عام 1989 إثر عودة الحياة النيابية، وإلغاء الأحكام العرفية كلياً عام 1992؛ فقد أعيد الأساتذة المفصولون من وظائفهم لأسباب سياسية، إلى أعمالهم، وبدأ هناك نشاط لأساتذة الجامعات في الحياة العامة، مثل المشاركة في الندوات والمؤتمرات التي تنظمها مراكز الدراسات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني، والكتابة في الصحف، والظهور في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، إضافة إلى الأنشطة التي تنظمها الجامعات نفسها ومراكز دراساتها. بل إن جامعات حكومية لجأت إلى تطوير أقسام استشارية لتقديم خدمات للقطاع الخاص من أجل تعزيز مواردها المالية، لكن هذا النشاط يتبع الطلب.

برغم ذلك، فإن دور الجامعات وأساتذتها في تقديم إجابات علمية على التحديات التي واجهت البلاد، على الصعد السياسية والاجتماعية والتنموية، بقي، فيما عدا استثناءات محدودة هنا أو هناك، متواضعاً.

الجامعات الرسمية: لعبت دورها كمؤسسات تعليمية وأخفقت كمراكز بحثية
 
22-May-2008
 
العدد 27