العدد 4 - ثقافي | ||||||||||||||
ذهب المفكر العربي برهان غليون في نظريته حول الاستبداد السياسي في العالم العربي، للقول أن أصل الاستبداد يكمن في الوظيفة التحديثية التي أناطتها الدولة العربية المعاصرة بنفسها، تجاه مجتمعها، والتي جعلتها قيّمة على المجتمع بدل أن يكون المجتمع هو مرجعية وجودها. فقد فتح هذا الحال المجال لكل من يتولى سلطة الدولة لأن يستبد بالناس والمجتمع، بحجة سعيه لتحديثهم. لكن حين لا تؤدى الوظيفة التحديثية على وجهها السليم، وحين تنحرف الدولة بأهدافها عن أهداف مجتمعها وتطلعاته وآماله، فإن ما يبقى هو سلطة الاستبداد وحدها. العلاقة بين سلطة الدولة والناس، هي التي تحدد مدى “مواطنية” هؤلاء الناس، أي انتمائهم لدولتهم باعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحدهم ويوفر لهم الحرية والأمان والاعتراف، ويرتبطون به بثنائية تقديم الواجبات والحصول على الحقوق، على قاعدة المساواة والتكافؤ الشاملين بين بعضهم البعض، والخضوع لسلطة القانون. إن غياب المواطنة الحقيقية في العالم العربي هو أمر بادٍ للعيان، فالناس في دولهم العربية أقرب إلى الرعايا منهم إلى المواطنين، فهم محكومون لما يصدر عن إدارات دولهم دون حول أو قوة، ودون أن يُسمح لهم بالمشاركة في صنع القرار وتوجيهه لما يعتقدون أنه يحقق مصالحهم، فضلاً عن عدم قدرتهم على اختيار ممثليهم في السلطة السياسية لتكون هذه الأخيرة ممثلة شرعية لإرادتهم. لكن، سيكون من تبسيط الأمور أن نعتقد أن الاستبداد هو وحده ما يحول دون وجود المواطنة الحقيقية في العالم العربي، وكأن الناس لا واجب عليهم في صناعة التغيير. ذلك ليس صحيحاً ولا شك، ولهذا فإن معضلة غياب قيمة المواطنة واقعة في اتجاهين، يتعلق الأول بممارسات سلطة الدولة، فيما يتعلق الثاني بتواطؤ الناس مع تلك الممارسات عبر سكوتهم عنها وربما سعيهم للإفادة منها، على حساب شركائهم في الوطن. إن غياب المواطنة في العالم العربي ينبع من سببين: الأول: وجود الاستبداد السياسي، لأنه يخلق حالة من الفساد الشامل في الدولة. فالإدارات تستغل السلطة لتحقيق مصالحها الخاصة لا مصالح الناس على قاعدة من المساواة والتكافؤ، والناس يستمرئون الفساد لأنهم يخضعون له ويوظفون العلاقات الشخصية والعصبية للإفادة منه كي يصلوا غاياتهم عبر التجاوز على القانون. وهذا فساد شامل لأن الجميع مقصرون في أداء واجباتهم بينما يسعون لتحصيل حقوقهم، فضلاً عن التجاوز عليها وأخذ حقوق غيرهم. الثاني: عدم تعامل الناس مع الدولة إلا من خلال وظيفتها التحديثية، وبالتالي الإدارية والتنفيذية، بدل اعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحدهم ويعبر عن هويتهم. عوضاً عن ذلك فإنهم يلجأون إلى العائلة والعشيرة والطائفة للتعبير عن هويتهم والبحث عما يمثلهم ويوحدهم، وعندها ينظرون للدولة باعتبارها أداة لتحقيق مصالح بُناهم الاجتماعية البدائية (القبلية والطائفية)، ما يجعل تلك البنى تتنافس فيما بينها على استغلال الدولة و”حلبها”. هذا السبب الثاني في غياب المواطنة، يمكن التعبير عنه بالقول أنه غياب ثقافة المدنية عن تفكير الناس وسلوكهم، وهي الثقافة التي تستوجب خروج الفرد من العلاقات العصبية إلى الانصهار في المجتمع على قاعدة التكافؤ في الحقوق والواجبات والفرص، والمساواة أمام القانون. فالثقافة المدنية بالنسبة للمواطنة هي بمثابة الحاضنة الضرورية التي لا غنى عنها، إذ لا شعور حقيقي بالانتماء قبل العدالة في الحصول على الحقوق وأداء الواجبات، ولا إحساس بالحرية قبل تحقق العدالة أمام القانون. فبغياب الثقافة المدنية افتقد العالم العربي الأساس الذي تقوم عليه قيمة المواطنة. |
|
|||||||||||||