العدد 4 - ثقافي | ||||||||||||||
لماذا ابتعدت الدول والمجتمعات عربية عديدة عن التيارات القومية واليسارية والوطنية والليبرالية، وباتت تجتذبها تيارات الإسلام السياسي؟. لماذا تجد التيارات العلمانية صعوبة في استقطاب مؤيدين لها؟. هناك أجوبة عديدة عن السؤالين هي من قبيل التفسيرات، منها أن أجواء الهزيمة في الصراع العربي الإسرائيلي، وإخفاق ردود الانظمة والمقاومات غير الإسلامية على الهزيمة، أشاع أجواء من الانسحاب إلى الدائرة الغيبية لالتماس نصر طال التوق اليه . ومنها أن الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 أشاعت آمالاً عراضاً بمنازلة الولايات المتحدة والحد من نفوذها في المنطقة،ولم تكن هذه الآمال في غير محلها، وهو ما أكسب جماعات الإسلام السياسي جاذبية ملحوظة في أنظار الجمهور، وذلك على حساب التيارات العلمانية. وهناك أيضا المقاومة الباسلة التي أبداها حزب الله في حقبة التسعينيات،بعد أن أزاح المقاومة اليسارية ودفعها دفعاً وقسراً إلى التقاعد المبكر. ومن هذه الأسباب او العوامل استمرار وتيرة التضييق على القوى الديمقراطية والمستنيرة، في إطار أو سياق كبت الحركة الشعبية وكبحها، وفي حالات اخرى التنكيل بها مما أضعف من فاعليتها، وقلص رقعة وجودها. ومن هذه الأسباب أيضا الضائقة الاقتصادية والنزوح الكثيف من الريف إلى المدن، بما أدى إلى ترييف المدن وإضفاء طابع ريفي محافظ وطاغ على العديد من أنماط الحياة فيها، وكذلك نمو الفقر والبطالة جنباً إلى جنب مع نماذج الترف الاستعراضي والشره الاستهلاكي الظاهر، مما وفر في المحصلة بيئة صالحة للإنفضاض عما سبق وانتعاش جماعات الإسلام السياسي، وسهولة اختراقها واستقطابها لشرائح عريضة من المجتمع وبالطبع ابتداء وانطلاقاً من الطبقات الفقيرة والمهمشة والوسطى، دون أن تكون فئات واسعة من الميسورين خارج دائرة الاستقطاب هذه. ترمي هذه المقالة إلى التأشير إلى سبب آخر لعله بنيوي أدى إلى تراجع القوى الديمقراطية.وهو سبب او عامل ذاتي يتعلق بهذه القوى : بأدائها وخطابها وحلقات اهتمامها. ويتمثل هذا السبب او العامل، في عدم اخذ قضية التنوير بالجدية الكافية، وعدم منحها الأولوية التي تستحق طيلة عقود تناهز نصف قرن مضى. مما أدى في النتيجة، إلى بقاء الجماهير كتلة يتناهبها نمط الحياة القديم، مع مفهوم للتسيس قائم على النقمة، وهي لا شك مشروعة على القوى الخارجية النافذة والمتغولة. والمقاربة هنا عامة وليست تفصيلية، فذلك ما يحتاج إلى بحث أوسع يسع باحثين متمرسين الخوض فيه. كما أن هذه المقاربة تتناول وجهة عامة وأساسية، ولا تتوقف كما ينبغي عند الفوارق والخصائص الذاتية للمجتمعات والبلدان، وكذلك لدى القوى الديمقراطية والمتحررة في مشرق العالم العربي ومغربه. وبما أن منافحة التحديات الخارجية المتمثلة في الحلف الأميركي الإسرائيلي غير المقدس (سياسياً وإن كانت تحف به بالحلف مزاعم دينية قدسية، أيديولوجياً). بما ان هذه المنافحة أو المناواة هي ما يجمع القوى الاجتماعية الرئيسة والمنتجة، وهي ايضا ما يوحد يساريين وقوميين وإسلامويين، فقد تم طرح التغيير الثقافي جانبا وملامسته نخبوياً فقط، حتى انتهى الأمر إلى إضفاء طابع ديني على الصراع السياسي المحتدم، دون تجاهل المنحى الديني للقوى المعادية. وفي ظل ذلك امكن القوى الدينية ان تخاطب الوعي الأولي، وأن تعمد إلى تبسيط المهمات، وذلك وفق القاعدة التي تفيد بأن لكل مشكلة جواب بسيط وفي متناول اليد، لكنه في الغالب الأعم يكون خاطئا. غير ان التيارات الصاعدة ترفض هذه المقولة، ويقول ممثلوها «لقد جربنا الطروحات الوطنية والقومية والاشتراكية، على مدى نصف قرن فماذا كانت النتيجة؟.هذا إذا لم يتم تكفير رموز نلك القوى. وفي النهاية يطرح السؤال : لماذا لا تجربونا، لماذا لا يتمتع الإسلاميون بفرصة اتيحت من قبل لغيرهم؟. ولماذا تتم تخطئتهم مسبقاً وقبل ظهور الحصيلة والنتائج؟.هذه الاسئلة تلقى قبولاً مبدئياً لدى فئات اجتماعية واسعة، كما تستهوي حتى بعض رموز في العمل القومي التقدمي، وحيث يقوم بعض هؤلاء بالاستلحاق بالقوى الإسلاموية، ومحاولة اقتناص بعض من الشعبية الغامرة لمصلحتهم. لم تنجح القوى الديمقراطية في نشر ثقافة تنويرية رغم محاولات جمة في هذا الاتجاه، بل إن العديد منها لم يلتفت إلى ضرورة نشر ثقافة سياسية دستورية، إلى إلإعلاء من شأن دولة الجق والقانون وحيث كان يتم السخرية من البرلمات في العديد من الحالات، إلى الإعتراف بالأقليات بالأقليات بوصفها مكوناً إجتماعياً وثقافياً (الموقف الراهن من الأكراد كحالة سياسية وحتى ككتلة بشرية يكشف عن الموقف «العام» الذي يكاد ينكر جود الأقليات مع الميل للتشكيك بهم). إلى الاعتراف بالمرأة باعتبارها شريكاً كاملاً بصرف النظر عن الجنسوية ورفض الممارسات الجائرة ضدها وما يستلزمه ذلك من نضال مدني للاعتراف بحقوقها في المواطنة والمشاركة السياسية والحريات الفردية،التي لن تتجاوز في النتيجة الحالة الثقافية العامة والأعراف السائدة التي يتحرك ضمنها الرجال. لقد تم النظر إلى هذه القضايا باعتبارها من النوافل والتفاصيل، التي لا تستحق الانشغال مقارنة بالمهمات الوطنية والقومية.وكان القصور الفكري يشكك في مثل هذه المفاهيم واعتبارها إما من ثمرات الانظمة الرأسمالية، او أنها لا تتفق مع خصوصية مجتمعاتنا. فيما هي، في واقع الامر، معايير كونية، شارك العرب والمسلمون ضمن اسهاماتهم الحضارية السابقة في دفعها نحو التراكم والبلورة. وهي بالتالي ثمرة جهد بشري لا يقتصر على الغرب، وإن كان له فضل دفعها إلى الأمام. ومن المفارقات أن الغرب الذي تتم أبلسته هو نفسه الذي يشكل مهوى أفئدة كثيرين بمن فيهم إسلامويون للسياحة او التعليم او الإقامة الدائمة في بلدانه وحتى التجنس بجنسية دوله، فضلاً عن استثمار الأموال فيه للمصارف الحلال، وحيث يتم الاعتراف ولو ضمناً بمستواه الحضاري المرتفع على صعيد احترام القانون وعموميته والتقدم العلمي والاقتصادي. لقد أسهمت تيارات علمانية، وما زال بعضها يفعل، في أبلسة الغرب بعد وضعه كله في سلة واحدة.خلافا للتجربة الآسيوية التي رأت فيه تحدياً إيجابياً, ولم يكن المطلوب أبداً هو طرح التحديات الوطنية والقومية جانباً والانهماك في التغيير الاحتماعي والثقافي. بل كان المطلوب وما زال المواءمة بين الأمرين بما يجعل مواجهة التحديات الخارجية أكثر نجاعة، وبما يثبت للآخرين أن العرب والمسلمين شركاء ناشطين في حضارة العصر ضمن خصوصية معينة، وأنهم يستحقون التفاعل مع قضاياهم العادلة. وليس الغرض هو نيل رضا الغرب، بل الوفاء للتحديات الداخلية والاستجابة الناجعة لها. أي أن الأجندة الوطنية والاحتياجات الداخلية والتنمية البشرية الشاملة هي الأساس والفيصل. غير أن القوى المشار اليها لم تفعل الكثير في هذا الاتجاه، وحين فعلت فإنها أخفقت ولم تجر مراجعة لأسباب هذا الإخفاق. مما أدى إلى إرساء حالة اجتماعية ساكنة وقابلة للنكوص على قاعدة أن لا شيء يتقدم ولا صوت يعلو على المعركة.وأن التغيير الاجتماعي «مقدور عليه» حين يتم إنجاز حلقات المواجهة. الشرائح الاجتماعية التي تشكل المادة البشرية والخزان الإنساني لقوى الإسلام السياسي، هي نفسها التي كانت ذات يوم ليس ببعيد جماهير الأحزاب اليسارية والقومية. وما حدث هو أن الجماعات الدينية لم تجد كبير عناء في استقطاب الناس.فالخطاب الصادر في نهاية المطاف هو واحد ولم يتغير الكثير : معاداة الغرب ورفض المساومة معه والتمسك بالحقوق الوطنية والقومية، والاستعداد للتضحية إلى ما لا نهاية في سبيل هذه الحقوق. الفرق هو النبرة والخطاب الديني والإيمان بحتمية النصر.فإذا ما أضيف إلى ذلك التقديمات الاجتماعية من إعانات وصدقات ومن خدمات أخرى طبية وغيرها، ومن تشكيل روابط مختلفة واستثمار الروابط العائلية، ومن تركيز على وسائط الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة، أمكن فهم النفوذ الذي باتت تتمتع فيه قوى الإسلام السياسي. واللافت الآن أن قضية التنوير والتحديث باتت شبه غائبة عن الأجندات القومية واليسارية، وتجري نسبتها إلى «ليبراليين» و«ليبراليين جدد» يقعون في دائرة الشبهات. فبات المطلوب مثلاً تحرير الأوطان وأسرّ النساء (وضعهن في الأسرّ الإجتماعي) كما في العراق وإمارة حماس في غزة. الثقافة والفنون والمعارف زوائد لا لزوم لها إلا ما كان تقليدياً وسطحياً منها يخاطب أبسط درجات الوعي. وإذ يجري التغني بحقبة النهوض في الستينات، فإنه يتم غض النظر عن أن الفترة تلك قد شهدت بدايات قوية للتغيير الاجتماعي والتجديد الثقافي وقد امتد هذا النهوض حتى أواخر السبعينيات رغم وقوع النكسة. |
|
|||||||||||||