العدد 27 - ثقافي | ||||||||||||||
علي بدر في العام 1907، في مقهى النيم في شارع السان جرمان بباريس، جلس أبولنير أمام صديقه ماكس جاكوب، بعد أن شرب فنجان قهوته، وسأله ماكس جاكوب: من تتمنى أن يكونوا قراء شعرك؟ أجاب أبولنير: ملاكم زنجي من أميركا، وإمبراطورة صينية، وصحفي ألماني، ورسام إسباني، وفتاة أرستقراطية فرنسية، وفلاحة إيطالية، وضابط إنجليزي في الهند... حديث الأوساط الصحفية والفكرية هذا العام هو كتاب «جاك رونسير»، المثير عن الشاعر غيوم أبولنير، وعنوانه «غيوم أبولنير في مقهى نيم». لقب جاك رونسير أبولنير بالشاعر الفخم الذي يسير وخلفه «عباده» الأطلنطيون، ذلك أنه بعدما حقق ديواناه (كحول وكاليغرام) أعلى المبيعات، بل تجاوزت المليون نسخة بقليل أصبح له جمهور في كل مكان في العالم، وربما كانت قصائد الحب العظيمة التي كتبها وهو جندي في الحرب العالمية الأولى، ونبرته المجددة الساحرة وراء هذا الاهتمام الواسع بقصائده لا سيما بين الشبان، فقد انتصر الشباب للشاعر الباريسي الذي قاد حياة غريبة باستجابته لنداءاته الداخلية، وتجاهله للتقليد، وكسره للمواضعات الأدبية والاجتماعية السائدة في عصره. وراء البحث عن أبولنير، يقول جاك رونسير، هي أسطورته. وهنالك عوامل عديدة وراء خلقه لهذه الأسطورة، منها: نشأته الغامضة (لا أحد يعرف والده)، وقدرته الفذة على اصطناع النكتة العملية وإشاعتها، وكذلك جسمه الضخم، جشعه لإطلاق الخيال، واستقباله لكل جديد ومبالغته به، وأخيراً اهتماماته المتنوعة: التجديد الشعري في ديوانيه، كتابة الروايات الإيروتيكية، النقد الفني، الرسم، ثم كتابة المسرحيات. يحتفظ النقاد عن شخصية أبولنير بالعديد من الوثائق والمعلومات والمذكرات والصور القلمية، ذلك أن موته المبكر والمأساوي دفع أصدقاءه للحديث عن حياة الشاعر وذكرياتهم معه تلبية لرغبة الجمهور، لذا بقيت جل مؤلفاته المنشورة عنه تتحدث عن شخصه أكثر مما تتناول نتاجه. ربما لأن تعددية شخصيته تغري بالحديث عن أبولنير المتوقد، فشخصيته من التنوع بحيث أنها اضطرته أن يضع في البنك خمسة نماذج مختلفة لإمضائه، وهناك من يرى هذا التركيب جزءاً من أصله السلافي الإيطالي، وربما شكلت تجاربه المثمرة المتنوعة شخصيته الشاعرة المتحسسة، فبعد أن أمضى طفولته في حوض البحر المتوسط انجذب إلى منطقة الآرادن في الشمال، ومن ثم أصبح الشاعر الأكثر باريسية من جميع الشعراء. امتلك أبولنير وعياً خلاقاً، وموهبة عالية للمحاكاة، وشهية مفتوحة على كل جديد، وقدرة على مطاردة كل مغامرة، والاندفاع نحو كل مخاطرة والسعي إليها. حاول في عمر مبكر أن يكسب عيشه بنفسه بفضل مهن متعددة، فوجد نفسه ممتزجا بالعامة التي تخوض في حسيتها وحياتها بعيداً عن «النقاء البرجوازي والطهارة المسيحية»، فأفنى في الملذات صحته الجيدة وأخلاقيته الممتازة، بل كانت شهيته تنتعش في الوجود المضطرم في البوهيمية الفكرية والفنية في منطقتي المونمارتر، والسان جرمان دوبريه. في هاتين المنطقتين الجميلتين من باريس، تعلم أبولنيراللعب في الحياة، والثراء في الفن. وأجهد نفسه في صقل موهبته وإثراء روحه المبدعة، والأصيلة وحديثه الشيق والممتع، وهكذا استطاع أن يترك في أصدقائه فتنة عميقة وسحراً، بل اكتملت حياته بصداقاته العظيمة للفنانين والشعراء. كان منجذباً بقوة إلى النساء ، بل كانت به حاجة شديدة لأن يفتن النساء وأسر قلوبهن، إلا أن أقل ممانعة منهن كانت تثيره وتفضي به إلى حماقات وأعمال خرقاء. يجمع النقادعلى أن أبولنير كان منجذباً بضعف إلى النساء، سواء تم ذلك تحت وقع الشوق الإيروتيكي أو العطش العاطفي، وقد عاش تجارب متعددة لم تكن برمتها تعيسة،فقد استطاع الحصول بفضل مواهبه على تجارب أخرى سعيدة، ويقيناً كان الألم والعذاب نصيبه في النهاية، فخابت خطوباته جميعها، وقد أعقب الموت زواجه بأيام، ولم تكن مسؤولية خيبات الأمل هذه تقع، على ما يبدو، على النساء اللواتي عرفهن فقط، إنما كان أبولنير –وهذا ما ذكره جميع أصدقائه دون استثناء- أخرق، متسلطاً، فظا، وقليل الإخلاص، كما كان غيوراً وفخوراً متألماً. كان هذا الشقي يرى في الحب أمراً خيالياً يخترق آماد الكون ويبتعد كلياً عن النفس المجبولة على الحياة، مما زاد معاناته حدة، وزاد هذا الحب في داخله شعوره بالوحدة، أحسها منذ أول تجربة مريرة، فقد احترقت رهافة حسه وأشرقت بشعره بشكل واضح، وهذا ماينبىء به الجرح الذي تركته المرأة التي أحبها وهي آني بلايدن، حيث لم يخف هذا الحب على الإطلاق، فتحولت طاقة الحب إلى قصائد جميلة وبارعة. ثم تعرف على ماري في أثناء سفره في القطار فأحبها، وقد خلف رحيلها فيه حالة من الخور والضعف والإرهاق دامت طويلاً، إلا أنه كما قال الناقد جاك رونسيير فإن أبولنير تمتع بتوازن أنجاه من التفكير بالانتحار، بل صنع الحب الشقي منه واحداً من أعظم شعراء العصر، وكانت هذه المرارة القلبية هي واحدة من مصادره الشعرية والفكرية. في واقع الأمر امتلك أبولنير ثقة عالية بالحياة توجهه، إذ كان ملتهباً على الدوام، وكان يتحدث عن شيء على الدوام، بل تمتع بإيمان يتطور ويتكون، وشكل نشاطه الجوهري في الشعر أحد الأجنحة العظيمة التي طار بها الشعر الفرنسي والعالمي، فهو سيد التجريب بلا منازع، وهو الذي هدم الصنم العظيم المعبود للشعر الرمزي أوائل القرن الماضي، ولذا عده السرياليون واحداً من أسلافهم. |
|
|||||||||||||