العدد 4 - ثقافي | ||||||||||||||
ينفي المفكر د. فهمي جدعان أن تكون أعماله الفكرية والبحثية ودراساته العلمية مقدمة لمشروع أو نظام أو أيديولوجيا، محاذراً أن يحيل ذلك إلى ما يتصل بالتشكيل الحزبي والجماعة المحكومة “بالغائيات المطلقة او النهائية”، مقترحاً اجتراح “استراتيجيات في الفهم والتحليل والنقد والتنوير” الذي ينسجم مع موقعه الأكاديمي ومنهجه الإصلاحي، وطبيعته الهادئة وروحه التأملية وميله إلى الصمت النشط في مواجهة الضجيج الطائش. وبمعنى آخر ظل صاحب “الطريق إلى المستقبل”، الذي يعنى بأناقتة الشخصية بشكل كبير، مخلصاً لروح الأكاديمي، إلا أن هذا الإخلاص يشف عن عدم رغبة أيضاً في النجومية والوقوف تحت الأضواء، فهو من القلة الذين يشتغلون دون جلبة، ويحفرون بعمق في أرض الفلسفة العربية التي بذرها بعدد غير قليل من العناوين التي تعالج قضايا الفكر العربي والإسلامي: “أسس التقدم عند مفكري الإسلام”، “المحنة.. بحث في جدلية الديني والسياسي”، “الماضي والحاضر”، “العرب وتحديات القرن الحادي والعشرين”، “رياح العصر.. قضايا مركزية وحوارات”، “المشروع الحضاري العربي بين التراث والحداثة”. وعلى ما قدم جدعان - المعروف في المؤسسات الأكاديمية في أوروبا وأميركا أكثر مما هو معروف في البلاد العربية! - فقد ظل المولود في قرية عين غزال (حيفا) في العام 1940 وخريج أعرق الجامعات الفرنسية (السوربون)، هو نفسه ذلك القروي الذي يعول على منظومة القيم، وحزمة الأخلاق في السياسة والحياة، ولم يلهث لمكسب أو مغنم، وإنما كان أكثر ما يسعى إليه أن يقدم الجديد و”ما يمكث في الأرض”، وأن يبقى الفلاح الذي “يحفر الطريق إلى المستقبل”. ومع أنه لم يسع إلى تشكيل جماعة فكرية أو أيديولوجية، فهو يقيم علاقاته الاجتماعية بموضوعية تقترب من إدارته الصارمة، إلا أن أفكاره ومقولاته تجد لها مريدين ممن تلقوا الدرس الأكاديمي أو قرأوا مؤلفاته، وهم كثر في الأردن والكويت وعُمان والبلاد العربية الأخرى، ممن رأوا في الوعي الحضاري شرطاً للتغيير. ومن هؤلاء (المريدين) من زامله واتفق معه أو خالفه، إلا أن (المعلم) كان، لفرط إيمانه بالحوار وحبه لتلاميذه يتابعهم ويتواصل معهم بروح العالم. وعلى ما تتسم طروحاته من مرونة – على حد ما يقال – إلا أنها تمتاز بروحه النقدية الحادة، فهو ينفي “القداسة عن أي ايديولوجيا” عادّاً قيمتها مرهونة بـ”نتيجتها العملية”. وجدعان، الذي يقدر المرأة، وخصوصاً الذكية الجميلة، على الرغم من صراحته المنهجية، لا يسمح أن يسيطر المنهج عليه ويغلق منافذ الضوء وصوت الحقيقة عنه؛ ذلك أنه غالباً ما ينطلق من إنسانية الإنسان وحريته، معترفاً بطبيعة الفكر وخصائص الكائن الذي يتحرك في سياق “النسبي والعقلي، المتغير والمتعدد”، ويرفض ادراج الحوار في “ثنائية الكفر والإيمان”. وجدعان، الذي عمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي في عدد من الجامعات الأردنية والعربية، وأستاذاً زائراً في جامعة السوربون الجديدة “باريس الثالثة” والكوليج دي فرانس “باريس” يساوي، بين الأفكار المختلفة، مبرهناً، حسب الناقد فيصل دراج، على أن جميعها تنطوي على نزوع إلى التعصب والتسامح. وهو كما يوصف “مسلم مستنير”، وإن كان بعض الثوريين يرون فيه “تقليدياً”، وبعض الإسلاميين يصفونه بـ”العَلْماني”، فإنه يعد العلمانية “الحياد” الذي يحيل على الديمقراطية السوية وتحيل الديمقراطية عليه. وعمل جدعان رئيساً لمجلس إدارة “معهد العالم العربي” في باريس في فترة التأسيس لأربع سنوات، وهو من الذين يولون عناية للأسلوب البحثي والبياني، بشهادة أستاذ النحو نهاد الموسى. وهو يتعامل مع العلمانية والحداثة وكثير من المصطلحات بـ”صيغة الجمع”، التي تقبل التباين بين الأفراد وتتيح التمييز بينهم. من هنا، فهو يعترف بجهود الجميع ووجودهم، رافضاً ممارسة أو تبني ما لا يقبله من الآخرين، ويقول: “كثيراً ما تستهلك ’الديمقراطيةُ الشكلانية‘ ’الديمقراطيةََ الأخلاقية‘. وكثيراً ما تفتح الليبرالية باب الجحيم وتوصد باب الفردوس الذي تعد به”. وكما أفاد من الدرس الأكاديمي والفلسفي، فقد أخذ من الدرس التاريخي مبدأ عدم الركون الى التصنيفات “التقابلية” التي تقسم العالم بأثر مستعار من الماضي بين “فسطاطات” أو “دور”، مؤكداً في بحث له نشر في مجلة العربي الكويتية حول ما يجري اليوم من صراع بأنها “ليست مسألة صدام حضاري على وجه التحقيق، وإنما هي مسألة عوارض تاريخية ذات مخاطر وجودية وصدام مصالح، وغايات تبعث على الخوف وتتطلب الردع”، شارحاً أن “الظفر الحاسم الذي أحرزه الغرب غداة عصر النهضة حول المعرفة إلى طبيعة غائبة، فوضعها في (القوة والسيطرة على الطبيعة) بعد أن كانت معرفة (تأملية) مجردة من المنفعة، وهو الذي وجه الأمور إلى ما أفضت إليه في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين”. وبالكيفية التي يصنف فيها المثقف إلى تقليدي “التواصل مع التاريخ” الحداثي الاغترابي “القطيعة مع التراث” الانتهازي، فإنه يرى أن الثقافة العربية ترتكز على ثلاثة نظم هي: نظام الإسلاميين، نظام العلمانيين، ونظام الليبراليين، وأن الثقافة العربية في مستقبلها ينبغي أن تأخذ في الحسبان هذا التشكيل. ويميّز د. جدعان الذي شغل منصب نائب رئيس جامعة البترا الأردنية، وحصل على وسام القدس للثقافة والآداب والعلوم “فلسطين 1991” بين الإسلام السياسي الذي اجترحه الغرب، والإسلام الحضاري، داعياً إلى دراسة سبب بروز الإسلام السياسي، ومبيناً أن الإسلام في طبيعته وماهيته، دين حضاري آمن رحيم، وأن “الإسلام السياسي” (ليس إلا إفرازاً زمنياً عارضاً لعالم غاضب محتقن متفجر بسبب شروط وأوضاع تتطلب الدراسة والبحث والعلاج). وهذا يعني، حسب قوله، أن الغرب مدعو في فعله في المجال الإسلامي إلى “أن يتبين العلل”، مركزاً على قضية وطنه فلسطين. “إن يقدر الغرب أن (المسألة الفلسطينية) ليست آخر المسائل في مشكل (الغرب – الإسلام) وإنما هي صدر المسائل الكبرى العالقة”. ويرى الحائز على جائزة الدولة التقديرية (الأردن 1993) ووسام سعف النخيل (فرنسا 1986) أن الدولة العربية ذات الطابع السلطوي والاستبدادي “بلا مستقبل”. ويخالف المفكر الذي كتب مجموعة من البحوث منها: “الوحي والإلهام في الإسلام، الآفة والمجتمع في الفكر الإسلامي”, آراء الغالبية في القول إن الحملة الفرنسية على مصر 1830 هي مقدمة النهضة، ويذكر أن ابن خلدون هو مؤسس تلك النهضة، وهو مبدأ الحداثة العربية الذي نبّه إلى “وعي الزوال، ونقيضه الذي هو وعي التقدم”. ويشير إلى ما انطوت عليها مقدمة ابن خلدون من قيم ومبادئ ارتبطت بالحداثة الغربية حول العمران والسكان، ويلت النظر إلى أن صاحب “المقدمة” لم يكن تلميذاً للفلسفة اليونانية التي تأثر بها السواد الأعظم من المفكرين المسلمين، بل كان سابقاً لعصره في التفكير الكانتي “كانت” الذي دشن بأفكاره عصر النهضة الأوروبية. |
|
|||||||||||||