العدد 26 - ثقافي
 

فيصل درّاج

عرف المجتمع الفلسطيني، قبل النكبة، حالات ثقافية متميّزة ظهرت في مجالات متنوّعة، تضمنت الصحافة والترجمة والنقد الأدبي والقصة القصيرة والمسرح، أبرز هذه الحالات، في العقد الأول من القرن الماضي، روحي الخالدي صاحب الكتاب الرائد في الأدب المقارن "تاريخ علم الأدب بين فيكتور هوجو والعرب"، ونجيب نصار مؤسس جريدة "الكرمل" وأول من أدخل المطبعة إلى البلاد، وخليل السكاكيني اللغوي والمربي الشهير وصاحب أوسع مذكرات شخصية في تاريخ فلسطين، وخليل بيدس المترجم وكاتب القصة القصيرة، وعائلة الجوزي التي عملت في المسرح، واسحاق موسى الحسيني الذي كتب "مذكرات دجاجة"، التي ظهرت في مصر وقدّم لها طه حسين.

تميّز هؤلاء المثقفون بخصائص ثلاث : نقد المجتمع التقليدي، والدعوة إلى التنوير والحداثة الاجتماعية، والانفتاح على الثقافة الأوروبية، فقد ذهب الخالدي إلى باريس وانجذب إلى الأدب الفرنسي، وكان نصار يقرأ بالإنجليزية، والألمانية، والفارسية، وعاش السكاكيني جزءاً من شبابه في الولايات المتحدة وتعرّف على التنويري الكبير فرح أنطون.تجلّى البعد الثالث في الانصراف إلى القضية الوطنية والتنبيه إلى الخطر الصهيوني، باستثناء اسحاق موسى الحسيني الذي أراد أن يكون "أكاديمياً نقياً"، وإلى جانب هذا كله لعب الشعر دوراً وطنياً تحريضياً، ممثلاً برمزين كبيرين هما: ابراهيم طوقان، وأبو سلمى، إضافة إلى الشاعر الشعبي نوح إبراهيم .

ورغم أن شهرة بعض هؤلاء المثقفين جاوزت حدود فلسطين، حال السكاكيني الذي انتخب عضواً في المجمع اللغوي في القاهرة، وروحي الخالدي الذي كان نائباً وقنصلاً في الدولة العثمانية، فإن صعود الجهد الفلسطيني في حقل الثقافة جاء بعد تجربة المنفى، وتوزّع الفلسطينيين على مجتمعات عربية متعددة، ربما كان المؤرخ والناقد الأدبي إحسان عباس من أوائل الفلسطينيين الذين اندرجوا في الحياة الثقافية العربية ولعبوا فيها، مبكراً، دوراً فاعلاً، فهذا العالم الجليل الذي أنهى حياته في عمّان ودفن فيها، كان من أوائل النقاد الذي دافعوا عن الحداثة الشعرية، في خمسينيات القرن الماضي، حين أنجز دراسة رائدة عن العراقي عبد الوهاب البياتي، أتبعها بعد عقد من الزمن تقريباً بدراسة طويلة عن شاعر عراقي آخر هو : بدر شاكر السيّاب. أضاف عباس، الذي كتب دراسته الأولى وهو استاذ جامعي في السودان، إلى النقد الأدبي جهداً في الترجمة أقرب إلى الفرادة مثاله الأبرز ترجمة عمل هيرمن مليفل : موبي ديك،

أسهم الأدباء الفلسطينيون بعد النكبة في تجديد الأجناس الأدبية الأساسية : الرواية والشعر والقصة القصيرة، ليس المقصود بالتجديد إضافة جهد كتابي إلى جهود عربية، موازية أو سابقة، بل المقصود التطوير الكيفي للكتابة الأدبية، اعتماداً على منظور يطوّر الشكل واللغة، ويسبغ على الجهد الفلسطيني صفة : "الطليعة" في أكثر من مجال، ففي مجال الكتابة الروائية ظهر جبرا ابراهيم جبرا، الذي أنجز ثلاث روايات أساسية، أعادت تأسيس الكتابة الروائية في العراق، وتركت آثاراً على الرواية العربية الطليعية في أكثر من مكان، والروايات الثلاث هي : صيادون في شارع ضيق، السفينة، والبحث عن وليد مسعود، وربما تكون الثانية منها أحد أهم الروايات العربية في القرن العشرين، فقد تميّزت بتجديد شكلي حاسم وبثقافة عميقة متعددة المستويات، عمل جبرا على تخليق "الفلسطيني الكامل" مؤكداً أمرين : إن جمال اللاجئ وبهاءه من جمال وبهاء الأرض التي ينتسب إليها، وأن تحرير فلسطين الصعب والبالغ الصعوية يستدعي إنساناً نوعياً على مستوى القضية التي يدافع عنها، وإلى جانب جبرا كان هناك غسان كنفاني، صاحب العمر القصير، الذي سعى إلى كتابة "رواية المضطهدين"، متنقلاً من شكل أدبي إلى آخر، محاولاً المزج بين الوثيقة المعيشة ومعطيات التاريخ القريب وشكل أدبي محتمل، يكشف عن "الحقيقة الكلية" الكامنة في حكايات البشر الصغيرة الكبيرة في آن، ولهذا فإن قيمة غسان الأدبية لا تصدر عن خطابه التبشيري، أو التحريضي، بل عن انتقاله اللاهث من شكل أدبي إلى آخر، الأمر الذي يجعل منهجه الأدبي أكثر أهمية من القول السياسي الذي حاول صياغته، ربما تكون روايته "رجال في الشمس" هي العمل الأدبي الأكثر بصيرة ونفاذاً، ذلك أن "الوعي الفلسطيني الزائف"، الذي عالجته، منذ نصف قرن من الزمن ما زال موضوعاً راهناً شديد الراهنية،

أمّا ما يعادل جبرا وغسان، في القصة القصيرة، فجاءت به سميرة عزام، التي عالجت موضوعها، باقتدار كبير، في زمن لم تكن فيه القصة القصيرة العربية قد وطدّت مواقعها بعد، فلم يكن يوسف ادريس، كما زكريا تامر، قد وصل إلى ما وصل إليه، وجهود عزام الرائدة، كما جهد غسان في مجال القصة القصيرة، فتحت أفقاً لجيل من كتاب القصة المرموقين انتمى إليه رشاد أبو شاور، وفاروق وادي، ومحمود الريماوي وغيرهم، وربما كانت القصة القصيرة هي مدخل البعض منهم إلى الرواية، مثل وادي الذي رثى الحلم الفلسطيني مؤخراً بعمل روائي جميل عنوانه "عصفور الشمس "، ورشاد أبو شاور الذي أحسن ترجمة عذاب المنفى في روايته "العشاق"، ويحيى يخلف الذي وصف المنفى في روايات كثيرة، وضع فيها بعداً تربوياً مشبعاً بالأمل،

إضافة إلى دور الأدباء الفلسطينيين في مجال القصة القصيرة والرواية والترجمة والنقد، فقد مارست عزام الترجمة حال جبرا الذي أثرى المكتبة العربية بكتب انجليزية متميّزة، كان هناك شعراء المنفى الذين عاشوا في فلسطين استكملوا رسالتهم بعد النكبة، مثل: أبي سلمى، وهارون هاشم رشيد، ومعين بسيسو، ابن غزة الفلسطيني الأممي والفلسطيني العربي دون حسبان، أو هؤلاء الذين انفتحت تجربتهم الشعرية على الفقد والحرمان وضياع الوطن منذ البداية : عز الدين المناصرة الشاعر المجدّد دون صخب أو ادعاء، مريد البرغوثي المجتهد المواظب المتأني في تطوره، وأحمد دحبور، "ابن المخيم" الذي رافق المأساة بإيقاع حزين،،،، وهناك طبعاً محمود درويش، الذي بدأ ينظم الشعر كغيره في فلسطين المحتلة، ثم وضع بينه وبين غيره مسافة شعرية واسعة لا سبيل إلى تجسيرها.

يستطيع متأمل الأقدار الفلسطينية أن يقع على أسماء مضيئة في مجالات متعددة : ناجي العلي، رسام الكاريكاتور الأغزر إنتاجاً والألمع رؤية بين أبناء جيله من الفنانين العرب، اسماعيل شموط، الرسام الذي أرخّ للمأساة بالورق والألوان والوجوه المسكونة بالحزن والإرادة والشيخوخة والشباب والوجع والمقاومة وأطياف بيوت الأجداد البعيدة، هل ادوارد سعيد فلسطيني أم أميركي، وهل كان بإمكانه أن يقع على المنهج النقدي الغاضب الذي وقع عليه لولا أطياف بلاده المغتصبة؟ ولماذا أصرّ بعض المثقفين اللامعين أن يكتب سيرته قبل الرحيل، هل هو تذكير باسم شهير لا يحتاج إلى شهرة جديدة، أم إنه إعلان عن ذاكرة وطنية حيّة لم تنسها خمسون أو أربعون أو ستون عاماً من الهجرة صورة الوطن ومعناه؟ كتب جبرا بأسلوب أليف أنيس أنيق عن طفولته في القدس وبيت لحم في سيرته "البئر الأولى"، واستعاد إحسان عباس بحزن غامر ومرارة ثقيلة أرجاء قريته "عين غزال"، وعيّن أنيس صايغ طبريا سيدة للعواصم في سيرته "أنيس صايغ عن أنيس صايغ"، واستنفر فيصل حوراني ذاكرته الخصبة ووزّعها على مجموعة من الكتب،

السؤال هو : لماذا ازدهرت الثقافة الفلسطينية في المنفى أكثر من ازدهارها في فلسطين قبل الاحتلال؟ يعود ذلك إلى تجربة المنفى التي حاولت أن تقنع الفلسطيني أنه إنسان ناقص لا يساوي غيره، وأقنعها بأنه إنسان صابر مقاوم عزيز النفس لا ينقصه إلا وطنه القريب والبعيد في آن، وقد دفعت تجربة اللجوء اللاجئ لأن يختلف إلى مدن واسعة أو ضيقة، وأن يتعلم من هذه المدن بقدرما يتعلم من تجربته.

أقدار الثقافة الفلسطينية في المنفى: بطولة البقاء عبر تجربة اليأس والأمل
 
15-May-2008
 
العدد 26