العدد 25 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي اكتسب سعيد التل (74عاماً)، عن والده الشاعر عرار نزوعاً الى العفوية والتخفف من المظاهر والشكليات، لكن دون نزعة التمرد الجامحة التي اتسم بها الأب. فسعيد شديد الولع بالتنظيم والتخطيط المسبق لكل شيء، وقد انعكس تحصيله العلمي وحياته المهنية على حياته الشخصية، فدراسته للعلوم (الرياضيات) ثم للفلسفة وعمله معلماً ومربياً في البدء طبعت شخصيته بطابعها، وقبل أن يتقلد الوزارة في حكومة مضر بدران عام 1978. يعرفه القريبون منه بصفاته هذه التي يجمع اليها، أناقته، وميله أحياناً لاختيار ألوان شبابية لملابسه، الى إقباله على التأمل والجدل ثم إسداء نصائح وتوجيهات، رغم زهده في الكلام عموماً. كما يعرفون عنه معرفته الجيدة لدواخل الناس، ويذكر قريب منه أنه كان يستشار من شقيقه المرحوم وصفي التل في تسمية وزراء، وأنه كان من أوائل من "اكتشفوا" رئيس الوزراء الأسبق عبدالرؤوف الروابدة. تقلد حقائب المواصلات والإعلام والتعليم العالي، وكتب في الصحافة بصورة دورية وأصدر مؤلفات في التعليم والوحدة العربية،ولعله من قلة قليلة من المسؤولين الذين انشغلوا بوضع مؤلفات لهم. ومن أفكاره إقامة "متحف للكتاب المدرسي" يجمع سائر الكتب المقررة في منهاج التعليم منذ إنشاء الإمارة. لم ترَ الفكرة النور بعد، وربما كان المقصود بها إنشاء مكتبة لا متحف، فالأخير يضم متعلقات شتى لا كتباً فقط. لم ينخرط في أحزاب، وإن كان قريباً على الدوام من حلقات فكرية، فهو عضو شبه دائم في أمسيات سياسية، مثل حلقة صديقه المرحوم جمال الشاعر ومشاريعه لإقامة "تجمعات ديمقراطية" في فترة الأحكام العرفية وبعدها. علاوة على لقاءاته بصديقيه الأقربين: كامل العجلوني، وعلي سحيمات. يستحق تصنيفه كقومي ديمقراطي، فهو لا يرى، كما تدل دراسات متواترة له، أفقاً لقيام وحدة عربية كما هجس بها الأوائل، دون إشاعة حياة ديمقراطية متفتحة في الديار العربية. ويؤمن الى ذلك بالتدرج وبحلقات وسيطة قبل الطموح لوحدة شاملة، وبذلك يرى في وحدة بلاد الشام حلقة أساسية للانطلاق الى ذلك الطموح الذي استهوى أفئدة أجيال، واستحوذ على مخيلتها. أفكار التل صحيحة لولا أنها عصية على التطبيق، وقياساً على طروحاته : لمن الأولوية في الاتحاد.. مع عراق ديكتاتوري مثلا جزء من الهلال الخصيب،أم مع مصر تتوافر على هامش من الديمقراطية؟. علاوة على أن تلك الافكار مع وجاهتها المبدئية، فإنها تنتسب الى ما قبل العولمة وترجمتها القومية العوربة ( بفتح العين وتسكين الواو) التي قصرت المسافات وأفسحت المجال للاستثمارات والسياحة والمشاريع المشتركة مع دول ليست متجاورة جغرافيا، لكنها شديدة القرب في المصالح الناشئة بينها وفي طبيعة النظام السياسي والاتصال بالعالم الخارجي. ومع ديمقراطيته الفكرية ونفوره من التعصب، فقد كانت حقبته في وزارة الإعلام (1979 ـ 1980) عادية في المنسوب المنخفض آنذاك للحريات الإعلامية، دون أن يكون متعسفاً. ويُعنى سعيد التل كدارس ومفكر بالهويات والجدل بينها: الهويةالفئوية( العائلية، الجهوية ) ثم الوطنية فالقومية والإسلامية. ويرى أن لا تضاد بينها. علماً أن ضمان عدم التضاد يكمن في إقامة دول ديمقراطية ومجتمعات تسير على طريق العصرنة ( كحال مجتمع العاصمة عمان في الخمسينات. .) والتحرر ولو نسبياً من التبعية.وسوى ذلك فإن التضاد يظل قائما على أرض الواقع وفي النفوس،ما دامت أنظمة الحياة العامة في دولنا ومجتمعاتنا ومنها الردة الثقافية الجارية، تفرض مثل هذا التنافر، وتجعل من الوطنيات مجرد تصعيد للعصبيات، ومن النزعة القومية محض توسيع لنزعة وطنية ضيقة. وإلا لماذا لم ينشغل القوميون العرب بحقوق الأكراد مثلاً، وكادوا يزدرون عملياً هذه القومية التي ينتسب لها صلاح الدين الأيوبي (سعيد التل متزوج من ابنة وزير كردي سابق ولقبه العائلي بابان،ويقال إنه كان صاحب أطيان بالتعبير المصري. .). على أنه يحسب لسعيد التل بين أمور أخرى تحسب له، نزوعه للبحث والاجتهاد الدائم وانشغاله الحقيقي بأحوال وطنه وأمته، فهو أحد كثرة من الممرورين من تدهور أوضاع العرب،وما يبدو من انسداد الآفاق، وذلك ما يفسر نزعته التوفيقية ومقارباته الواقعية، وحرصه على تقديم مقترحات والتماس مخارج، بدلاً من الاستغراق في السوداوية والتشكي، وكي لا يتبدد كل شيء بما في ذلك الأمل. وفي هذا السياق يُحسب له إيمانه العميق بالوحدة الوطنية بين الأردنيين، رغم جرحه الشخصي (اغتيال شقيقه الأكبر وصفي) وتعففه عن العصبيات، وتنسب له قناعته بأن الأردن لكل الأردنيين أيا كانت أصولهم ومذاهبهم، وأنه لا بد على الدوام من بذل المزيد من الجهود ووضع التدابير لإرساء هذه الوحدة، لذلك كان أحد قلة قليلة من واضعي مشروع المملكة العربية المتحدة بين الضفتين في العام 1972، وهو ما كشفه التل لـ"ے" ويستحق توثيقه، وكاد المشروع حينها يقلع، لولا خلافات غير جذرية كان يمكن آنذاك تطويقها، علماً بأن المشروع وضع قبل ان تطرح منظمة التحرير فكرة الدولة المستقلة، وعليه فالمشروع ليس ردا على مشروع الدولة الفلسطينية. وما زال يرى أن أفضل حل يتمثل في صيغة متطورة لمشروع المملكة المتحدة،وذلك بعد قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس. وسعيد التل كان ممن أخذوا على وحدة الضفتين من قبل وكما ينسب له، أنها لم تعمل كما كان يفترض على إظهار الهوية الفلسطينية في الضفة الغربية ضمن إطار الوحدة القائمة، ولو جدث ذلك لكان سير الأمور قد تغير نحو الأحسن. في الرابعة والسبعين من عمره ينشط سعيد التل كرجل لا يعرف التقاعد طريقاً الى حياته، يواظب على رأس عمله في جامعة عمان العربية للدراسات العليا. يكتب ويقرأ بانتظام، يصل الرحم، ويعود المرضى من أصدقائه ومعارفه. يتعلق بأحفاده، ويمارس نمط حياة صحي رغم ولعه غير العادي بالمنسف، فيقتصر على تناول مشروبات صحية كالزهورات،ولم يعرف طريقه الى الغليون أو أي نوع من أنواع التدخين،كحال شقيقه المرحوم مريود. وخلال ذلك يستغرقه التفكير في مستقبل الأردن والأردنيين، وكان صاغ جملة تحديات أمام الدولة الأردنية في دراسة نشرها في21 شباط الماضي في "الدستور" وهذه التحديات حسب ترتيبه لها تتعلق ب: الوحدة الوطنية، الصراع العربي الاسرائيلي، بنية المجتمع، تراجع مكانة أجهزة الإدارة العامة، الأمن المائي والغذائي، وانكماش رقعة الأرض الزراعية، الطاقة، المعونات الخارجية، الفقر، التعليم، التوزيع غير المتوازن للسكان على مساحة الدولة، البطالة، الفساد، والأمن الوطني. سعيد التل بوسعه مع صفوة آخرين، المساهمة في صياغة إجابة موضوعية عن هذه التحديات بأفق عصري وبقدر ملحوظ من الإلمام بمكونات المجتمع وممكنات التطور.. |
|
|||||||||||||