العدد 25 - كتاب
 

بتفحص الظروف التاريخية، والسياسية التي نشأت فيها مؤسسة رعاية الشباب العام 1966، نجد أن بعضها قد تمثل في قيام منظمة التحرير، وحرب حزيران 1967، وبروز نشاطات المقاومة الفلسطينية وتشكيلاتها التنظيمية المختلفة وتفاعلات هذه النشاطات في المجتمعات العربية بعامة والمجتمع الأردني بخاصة، إذ وجدت قطاعات الشباب الأردني في هذه التنظيمات أطراً جاذبة لممارسة النشاطات السياسية ليس فقط بين المكون الفلسطيني للمجتمع الأردني، بل أيضاً بين قطاع واسع من الشباب الشرق أردني، مما دفع مؤسسات رعاية الشباب المختلفة، وفي مقدمتها مراكز الشباب والشابات، للتفكير في استراتيجية خلاّقة للتعامل مع القطاعات الشبابية بمنهجية مختلفة، عن تلك التي تمارس في المؤسسات التعليمية التقليدية، وفي بقية المؤسسات التابعة للمؤسسة، مثل حركة الكشافة والمرشدات والأندية الرياضية وغيرها.

تبدت بعض ملامح هذه الاستراتيجية الخلاّقة التي انتهجت في مراكز الشباب التي تضم في عضويتها الشباب الأردني الذين تتراوح أعمارهم بين 12 - 18 عاماً في بناء الإحساس بالوطنية الأردنية المنفتحة المستوعبة لكل مكونات المجتمع باختلاف منابتها وأصولها، والعمل على تنمية الجوانب المختلفة لشخصية الشاب الأردني بالتوازن بين جوانبها العقلية، والعاطفية، والاجتماعية، والبدنية، تحقيقاً لصورة المواطن الصالح عملياً وليس نظرياً، والاعتماد على القدرات الذاتية لشباب المراكز في إدارة مراكزهم بصورة ديمقراطية أصيلة بعد تزويدهم بالمهارات اللازمة لهذه الإدارة عن طريق الحلقات الدراسية، والمخيمات الكشفية التي تقام دورياً، وعدم السماح للمؤسسات الحكومية التقليدية المدنية وغيرها، بالتدخل في شؤون المراكز بأي شكل كان لتقوية الإحساس بين أعضائها بالأمن والحماية والتعبير الشجاع عما يجول في خواطرهم في الندوات والمحاضرات ومجلات الحائط وغيرها من وسائل التعبير المتاحة في ذلك الوقت.

واعتبار أعضاء المراكز مواطنين يمارسون قناعاتهم، وليسوا طلاباً يتلقون التعليم والتعليمات من مشرفيهم.

ناسبت هذه الاستراتيجية وهذا العمل ميولي وقناعاتي، وشجعني أن أجعل من مركز شباب مادبا نموذجاً لمؤسسة شبابية ناجحة ونشطة تحظى بثقة أعضائها وإيمانهم بمنهاجها والمشاركة بحماس ونشاط في تنفيذ خططها وبرامجها.

فكيف تم تطبيق كل ذلك في مركز شباب مادبا؟ لنبدأ في كيفية بناء كوادر المركز ولجانه ومجلس إدارته، كانت الانتخابات في مركز الشباب موسماً لممارسة الديمقراطية الحقّة، وكانت حصيلتها انتخاب أكفأ الأعضاء لعضوية اللجان في ضوء البرامج التي كانوا يضعونها ويروجون لها بين الشباب بكل الوسائل المتاحة قبل وقت كافٍ من يوم الانتخاب، وكانت تشكل اللوائح الانتخابية من أعضاء مسلمين ومسيحيين، من أصول فلسطينية وأردنية ومن عشائر مختلفة، وكان يجمع بينهم البرنامج الانتخابي في مواجهة برنامج انتخابي آخر.

التنافس بين اللوائح والمرشحين كان تنافساً أخلاقياً يبنى على البرنامج المقدم للهيئة العامة، وكانت فترة الترشيح والدعاية الانتخابية تستند الى المنافسة القائمة على القدرة على الإقناع بالبرنامج الانتخابي ولا شيء غيره، وعند إعلان النتائج ينخرط الفائزون في تنفيذ برامجهم التي يطبقها كل أعضاء المركز بعد مناقشتها وإنضاجها في اجتماعات اللجان المختلفة.

وكان المشرف على المركز يراقب كل ذلك بحيادية، ويعالج بالحوار كل ما يستلزم المعالجة من أجل خلق جيل يؤمن بالممارسة الديمقراطية، ويتقن أصول اللعبة الديمقراطية، وخلق جيل ملتف حول قيم ونشاط وبرامج لا عصبية، ولا طائفية، ولا عشائرية، بل اختيار حر داعم لأكفأ الأعضاء.

كانت المباراة الرياضية، على سبيل المثال، بالنسبة لي كمشرف على المراكز مقياساً للنجاح في إدارة المركز، فكانت تنظم المباريات بين فرق المركز وبعض التنظيمات الفدائية التي لها أعضاء رياضيون مع فرق المركز ، وكنت لا أتدخل في قرار العضو في أي فريق يلعب مع فريق مركزه أو فريق تنظيمه، ولكم كان سروري كبيراً عندما أجد أن الأعضاء الرياضيين المنتمين الى تنظيمات فدائية قد اختاروا اللعب مع فريق مركزهم، واختار قسم آخر منهم المحافظة على النظام خارج الملعب، وتشجيع الفريقين بروح رياضية عالية لا تعرف التحيّز ولا التعصب وتقبل النتيجة بروح رياضية عالية.

ونموذج آخر، لكنه ليس آخر النماذج، تجلى في الجانب الثقافي وممارساته داخل المركز، كان التركيز الأهم على قيم الثقافة الحقيقية، مثل القدرة على «تحمّل» وجهة النظر المخالفة واحترامها، وعدم احتكار الحقيقة، والمرونة، والهدوء، والحوار، والجرأة في طرح الرأي والموضوع، مهما كان حساساً، وأذكر يوماً لا أنساه سألني فيه أحد الأعضاء عن مضار أو فوائد العادة السريّة، وكان هذا السؤال محور نقاش شارك فيه عشرات الشباب المتواجدين في المركز الذين أعدت طرحه عليهم وناقشوه بكل شجاعة وصراحة، وجعلنا هذا الموضوع عنوان مجلة الحائط ذلك الأسبوع، فشارك في الكتابة فيها عشرات الأعضاء الذين عبروا عن رأيهم بشجاعة وشفافية حول هذا الموضوع.

أما في الجانب الاجتماعي، والانفعالي، فقد ساعدنا على ترشيده وجود مركز للشابات مجاور لمركز الشباب، وكم شهدت صالات المركزين من مسابقات وندوات ثقافية ونشاطات رياضية مشتركة مما خلق جيلاً قادراً على بناء علاقات صحية مع الجنس الآخر بكل الرقي الذي نتوقعه من شاب متحضر.

أما عن تقاليد العضوية، فتميزت بتسجيل اسم العضو عند دخوله المركز ولدى الخروج منه، وعدم التدخين في المركز، وكم كان جميلاً رؤية عضو المركز يلقي بالسيجارة من يده عند باب المركز وقبل الدخول إليه.

ويتحدث مع أقرانه ويناقشهم بهدوء ودون انفعال، ويتجه الى مكان النشاط الذي يرغب فيه وفق خطة نشاط المركز لذلك اليوم.

لقد كانت تجربة من أنجح التجارب ومن أغنى ما مر على الأردن من تجارب شبابية، وليس هناك من خيار سوى المضي على هذا النهج، مع أخذ المستجدات ووسائل الاتصال الحديثة بعين الاعتبار.

* مدير عام مهرجان جرش

وأمين عام وزارة السياحة سابقاً

أكرم مصاروة: مراكز الشباب.. تجربة هل تتجدد؟
 
08-May-2008
 
العدد 25