العدد 25 - أردني
 

عواد علي

يعيش عالم اليوم عصر مركزية الصورة وسيادتها بامتياز، فهي تحيط بنا من كل الجهات، وتفرض هيمنتها علينا أينما كنا: في البيت حيث التلفزيون والفيديو والـ «دي في دي» والإنترنيت، والشارع حيث الإعلانات بمختلف أشكالها الثابتة والمتحركة والمضيئة، والمكتبات والأكشاك، التي تعرض الكتب والصحف والمجلات والأقراص المدمجة، وأماكن العمل، والملاعب الرياضية، ووسائل المواصلات، ودور المسرح والسينما، وقاعات المحاضرات في الجامعات والمدارس والجمعيات والنقابات، والمطاعم والنوادي والملاهي والمراقص... إلخ.

في كل هذه الأماكن ثمة ما يلتصق بنا التصاق الأظفر باللحم، مختزناً صوراً ثابتةً أو متحركةً لمن نحب، ألا وهو الهاتف الجوال. ولا تصح المقارنة، طبعاً، بين حضور الصور في مجتمعاتنا العربية وحضورها في المجتمعات الصناعية الكبيرة، فقد بلغ طغيانها على الأخيرة حداً دفع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى إطلاق صرخة، في كتابه، أو بيانه الفكري (موت الصورة)، مفادها أننا أصبحنا معرضين لفقدان البصر من كثرة الصور التي تعرض علينا، فلم نعد ندري من أين تأتي، ولا ماذا تعني، ولا لماذا تستخدم. إن ما دفع دوبريه إلى إصدار ذلك البيان هو هذا السيل المتدفق بلا انقطاع للصورة التلفازية، والذي جعل الصورة مجردة من أية مرجعية أو صلة لها بأي حقيقة رمزية أو دينية، فتكسب استقلاليتها، وتنفلت من مبدأ الواقعية. وهذا هو من وجهة نظر دوبريه الحاضر الأزلي للبصري المهووس بالسرعة، بالأكثر والأسرع حيث الريادة لتابع مجهول ومتوحش.

قال الفيلسوف الفرنسي، جان بودريار، عن حرب الخليج الثانية إنها لم تقع، بل شاهد الناس منها نسخةً تلفزيونيةً، أي مصورةً. وفي السياق نفسه أكد مواطنه الفيلسوف بول فيريليو أن زمن الصورة هو زمن التلفيق، وشاهده على ذلك هو الحرب الإعلامية التي دخلناها مع حرب الخليج الثالثة، التي انتهت باحتلال بغداد، وتبشر بحقبة إمبريالية عالمية جديدة هي التتويج الحي لعصر عولمة الصورة والإمبراطورية معاً.

وأخذت دور النشر، وبخاصةً الغربية منها، تروج، خلال العقد الأخير، لعشرات الكتب التي تعنى بهذا الموضوع، ويكاد أغلب مؤلفيها يتفقون على إطلاق تسميات متقاربة، تشير إلى هيمنة الصورة على عصرنا الحالي، مثل: عصر الصورة، وعالم الصورة، وحضارة الصورة، وثقافة الصورة، وزمن الصورة. وسرعان ما انتقلت عدوى الموضوع إلى المشهد الثقافي العربي، فظهرت بعض المؤلفات التي تبحث في عالم الصورة، وتقنياتها، وأيديولوجيتها، ومجالاتها، وأهدافها، وأبعادها السيميائية، وعلاقتها بالعولمة، والحرب الإعلامية، وغير ذلك. ومنها، على سبيل التمثيل لا الحصر، كتاب (عصر الصورة) لشاكر عبد الحميد، و(الثقافة التلفزيونية) لعبد الله الغذامي، و(عبقرية الصورة والمكان) لطاهر عبد مسلم. وقد تفاوتت رؤية هؤلاء النقاد والكتاب لسيادة الصورة وكثافتها في حياة إنسان الألفية الثالثة، ونبه أغلبهم إلى خطورة استخدامها، وتكريسها لدكتاتورية امتلاك الحقيقة العلمية المطلقة.

مما تقدم يمكن الاستنتاج:

- إن الحضور المتعالي للصورة، أو نزعتها المركزية في عالم اليوم، بوصفها الأداة المتحكمة بالمعنى والثقافة والوجود الواقعي للأشياء والظواهر، أصبح يعادل، بل يفوق نزعة الصوت المركزية، أو ميتافيزيقيا الصوت، التي تهيمن على خطاب اللغة، حسب تعبير ديريدا.

- إن للصورة في عالمنا اليوم وجهين: أحدهما سلبي، والثاني إيجابي، فهي مشروطة بنوايا منتجها ورؤيته، سواء أكانت جمالية أم براغماتية.

ولكن في جميع الأحوال "لا تفكر الروح أبداً من دون الصور"، كما يقول شيخ النقاد أرسطو. وأرى أن هذه المقولة هي المفتاح الذي يقودنا إلى الفضاء المشرق للصورة، وأعني به بلاغتها وجمالياتها في الخطاب الإبداعي، فالصورة، مثلاً، معيار شاعرية القصيدة، أي بمعنى أنها من دون صور بليغة، أخاذة، موحية، ومتوهجة تبقى مجرد ألفاظ متراصة، والكلام التقريري الجامد، ويكفي قول الجاحظ "إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير".

وعجز القاص، أو الروائي عن تصوير الأحداث، وفضاءاتها، وأفعال الشخصيات ومكنوناتها بأساليب بلاغية متباينة لاينتج عوالم سردية، والمسرح (وكذلك السينما) الذي يتوسل الثرثرة اللفظية، والحكي المسترسل في فضاء إيقوني ساكن، ويهمل الأطر البصرية (الحركية والتشكيلية) يتحول إلى منبر للخطابة الرتيبة. أما الفنون البصرية الخالصة فأهمية الصورة، وبلاغتها في تكوينها لا تحتاج لبيان.

“الروح لا تفكر أبداً من دون صور”
 
08-May-2008
 
العدد 25