العدد 24 - ثقافي | ||||||||||||||
محمد المصري * بصدور "عصر رأس المال" بعد "عصر الثورة"(*)، تكون الحلقة الثانية من مشروع اريك هوبزباوم الكبير لكتابة مرحلة هامة من تاريخ البشرية تمتد ما بين (1789-1914) قد وجدت مكانها في المكتبة العربية. وعندما تصدر قريبا الحلقة الثالثة والأخيرة، "عصر الإمبراطورية"، من هذه المراجع المَعْلَمية عن التاريخ الحضاري والاقتصادي والسياسي لأوروبا، وانعكاساته على العالمين العربي والإسلامي، ستملأ هذه الثلاثية(*) فراغا واضحا في المكتبة التاريخية العربية. وستكون مصدرا مرجعيا للطلبة والهيئات التعليمية الجامعية والباحثين ومحبي التاريخ والقراء العاديين المهتمين بفهم سيرورة عالمنا الحالي وكيف استقر على ما هو عليه . إن كثيراً من الأحداث التاريخية والتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية التي مر بها العالم في السنين الخمسين الماضية، بل والتطورات التقنية والمدارس الفكرية والفنية والثقافية، إنما تعود جذورها إلى تاريخ القرن التاسع عشر. وإذا كان هذا صحيحا إلى حد كبير فيما يتعلق بالعالم اليوم، فإنه يصدق كذلك على العالم الثالث – بما فيه منطقتنا العربية. إن كثيراً من المسارات التاريخية التي مرت بها البلدان العربية، والانعطافات السياسية، والتحولات في البنى الاقتصادية والاجتماعية، ونمو قوى فكرية وثقافات متنوعة، قد يجد جذوره في القرن التاسع عشر(*). لقد كان ذلك القرن سلسلة من المراحل المتتالية للنظام الرأسمالي الذي ولد في أوروبا ومساعيه إلى أن يشق طريقه ويبسط هيمنته على العالم كله. ويصبح، من ثم، نظاما اقتصاديا يمد لنفسه جذورا في أقاصي الأرض غربها وشرقها، وشمالها وجنوبها، ويغزو أكثر المناطق عزلة، ويوحدها على اختلافها وتنوعها في إطار عمليات إنتاج وتبادل رأسمالية. فحلّ بذلك محل النظم الاقتصادية القديمة كافة، واستبدلها بمنظومة جديدة يصر دعاتها على التأكيد بأن هذا التحول غير قابل للتوقف(*). ولا عجب، إذن، أن مؤرخاً عالمياً كبيراً مثل إريك هوبزباوم ما زال، منذ عقود، يحتل موقعا فريداً ومتميزاً بين مؤرخي عصره بفعل تنوع كتاباته وغزارتها وجديتها، وأن يفرد كتابا خاصا للربع الثالث من القرن التاسع عشر ويطلق عليه اسم «عصر رأس المال». ففي أعقاب فشل الثورة التي اجتاحت أوروبا (1847 – 1848) جاءت فترة تاريخية اتسمت بالاستقرار، واستمرارية إعادة ترتيب البيت الداخلي وتنظيم علاقات القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أوروبا وغيرها من مناطق العالم، دون الدخول في أتون حروب أو هزات ثورية شبه شاملة وشبه عالمية. و على الرغم من حروب عصفت بمناطق متعددة من العالم بما فيها أوروبا، إلا أن هذه الاضطرابات لم يكن لها طابع الشمولية مثل تلك الهزات العنيفة قبل فترة الكتاب أو الحروب العالمية التي شهدها وتأثر بها العالم جميعاً في القرن العشرين. ويضع هوبزباوم القارئ أمام تحليل نوعي لحروب مرحلة عصر رأس المال، وبخاصة تلك التي جرت في أوروبا، بأنها حروب ذات طبيعة محدودة، حيث تقوم الدول، وبمرونة عالية، بإعلانها وخوضها، ثم تقوم بإيقافها بالدرجة نفسها من المرونة. وتندرج حروب ايطاليا وحروب بسمارك التوحيدية والأوروبية في هذا الإطار. وعلى الرغم من الاستقرار الذي عاشه العالم بسبب عدم شمولية الصراع، فقد شُنّت حربٌ شاملة وشرسة عمل فيها رأس المال على قدم وساق في توحيد الكرة الأرضية وربطها بعضها ببعض بطريقة لم تتح ولم تتحقق من قبل، حتى في موجات الفتوحات أو الهجرات الكبرى التي شهدها تاريخ العالم، مثل فتوحات الإسكندر الكبير أو الإسلام أو الرومان والمغول وما رافقها من هجرات بشرية كبيرة. إن سيرورة ربط العالم ضمن السيطرة المطلقة لرأس المال لم تقتصر على تحويل السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أيدي جماعة إلى أيدي أطراف وقوى أخرى تدير شؤون أقاليم كانت منعزلة فحسب، بل كانت تحطيم بنى اجتماعية واقتصادية أو تحويلها لتكون في خدمة علاقات إنتاج وتبادل رأسمالية. إن ربط العالم في عصر رأس المال لم يجرِ عبر تجريد حملات عسكرية تضمن استمرارية السيطرة العسكرية لإمبراطورية على أقاليم مترامية، وإنما بربط الأقاليم العالمية المتباعدة بعجلة نظام اقتصادي ستتأثر الفئات الاجتماعية بأية أزمة فيه وبأية انجازات أو منافع يجنيها. ومع تأسيس لنظام العالمي في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، أصبحت مناعة أي جزء من العالم لتأثير ما يجري في بقية العالم ضربا من ضروب الوهم، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالتطورات أو الأزمات الاقتصادية و انعكاساتها الاجتماعية والسياسية. إن التاريخ، كما يؤكد هوبزباوم، لا يستمزج المؤرخين حول ما يناسبهم من مراحل يحددون بها مدوّناتهم وتحليلات للماضي، واستقراءهم للحاضر، واستشفافهم للمستقبل، مع أن بعضهم لا يدركون ذلك دائماً. ومع أن إعادة كتابة تاريخ مرحلة سيادة رأس المال تتركز على تأريخ المناطق التي شهدت ولادة الرأسمالية، أي أوروبا الغريبة والشمالية ومن ثَمَّ الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هوبزباوم بقي أميناً على إطاره الفكري والإيديولوجي الرافض للتمحور حول (الارتكازية)، التي تعتبر أوروبا هي الأساس لتاريخ العالم في العصر الحديث، أو كما يدعي بعض المؤرخين، أن التاريخ الحديث للعالم هو تاريخ الغرب، ضارباً عرض الحائط بتاريخ المعمورة كلها. ولذلك، يقدم الكتاب ربطاً عميقاً وتحليلاً للتحولات التاريخية والقوى السياسية والاجتماعية في مناطق العالم المختلفة من اليابان والصين والهند شرقاً إلى المنطقة العربية وإفريقيا، إضافة إلى رصد لأميركا اللاتينية. ويستخدم المؤلف المعرفة الموسوعية التي يتحلى بها ليقدم التفاصيل عن تحالفات القوى الاجتماعية، والمشروعات الإصلاحية، ومراحل المقاومة والمهادنة، وربما الاستسلام لهجمة رأس المال واقتحامه لأصقاع جغرافية واقتصادية وثقافية جديدة في العالم. كما أنه يتقصى أبعاد الثقافات السائدة، بما فيها مجالات الإبداع الأدبي والفني، والتوترات التي حكمت مجتمعات أوروبية وغير أوروبية بين القيم الأخلاقية للرأسمالية الصاعدة من ناحية، والمنظومة القيمية الموروثة المرتبطة بالتكافل بين الأفراد. ويقدم تحليلاً ووصفاً غير مسبوق للتحولات الثقافية لفئات اجتماعية بعينها، أو للمجتمعات بصفة عامة، فينتقل من التحولات السياسية والاقتصادية إلى إقحام للفن ودوره، وسياحة الطبقات الوسطى، وثقافة الجنس في الإطار البيوريتاني (الطهراني)، وثقافة الطبقات العمالية. وعلى الدرجة نفسها من الأهمية، يقدم هوبزباوم تحليلاً ممتعاً ومرناً لليبرالية كقوة سياسية ضاغطة لعبت دوراً أساسياً في صياغة تاريخ الحقبة، وأيضاً في التأسيس لأنظمة سياسية ديمقراطية ما زلنا نراها إلى اليوم. ويتطرق العرض إلى دخول القوى السياسية، ومنها المحافظة، إلى حلبة الصراع السياسي مع قوى ثورية وديمقراطية وليبرالية، وتحقيقها لإنجازات ديمقراطية هامة –كان بعضها في صلب برنامج الليبراليين، لتحول دون وصول الليبراليين والثوريين من الوصول إلى سدة الحكم. إن هاجس استمرارية الاستقرار وهامش المناورة الكبيرة لبعض السياسيين في غرب أوروبا قد ساهم في إحداث تحولات ديمقراطية كبيرة مهدت للمزيد من التغيرات في الحقب التاريخية اللاحقة. ولعل في هذا فائدة للمواطن العربي في تجربته الحالية للتحول الديمقراطي والإصلاح السياسي. ولعل من موضوعات الكتاب الأكثر إثارة لاهتمام الباحث العربي العلاقة التي تأسست في هذه الحقبة الزمنية بين «مكان ولادة الرأسمالية الأصلي» (أوروبا) والعالم الذي اخترقته وتغلغلت فيه (أي باقي العالم) أو - حسب مفردات الكاتب المتسقة مع الفترة التاريخية آنذاك - الدول النامية والدول الأقل نمواً. إن هذه العلاقة تمثل إحدى الإشكاليات التاريخية التي ما زالت حتى اليوم تلقي بظلالها على طبيعة العلاقة بين ما يسمى بالعالم الثالث والعالم الرأسمالي المتقدم، أو تعيد إنتاج هذه العلاقة المشوهة بين العالمين. ففي هذا الإطار، يوضح الكتاب الطابع الشمولي في استراتيجية اختراق رأس المال لمناطق العالم كافة؛ فلا فرق بين أميركا اللاتينية وإفريقيا والمنطقة العربية والهند والصين. بل إن ردود الفعل التي أطلقتها نخب هذه المجتمعات وشعوبها كانت على قدر كبير من التشابه. فالانقسام بين الرافضين لدخول رأس المال أو «الغَربَنة» من جهة، والمحابين من جهة ثانية، كان ظاهراً ممتداً في مجتمعات ما يسمى الآن دول العالم الثالث. ويتطرق الكتاب بتحليل موجز وعميق في الوقت نفسه إلى ردود الفعل المتباينة في المنطقة العربية ومصر والجزائر اللتين كانتا أول المجتمعات العربية التي وقعت في نطاق اختراق رأس المال الغربي.(*) ويخلص هوبزباوم إلى أن حتى دعوة جمال الدين الأفغاني لإحياء الإسلام السني لم تكن مرتكزة إلى العودة إلى الماضي، وإنما إلى استحداث عوامل ثقافية ودينية وفكرية ذات وزن في المنطقة العربية ولدى المسلمين لخلق مجتمعات جديدة ومتطورة ومساوية للدول الغربية النامية. وهي بذلك تقع في سياق ردود الفعل نفسها في أميركا اللاتينية أو الهند أو الصين. وفي معرض تحليل هذه التيارات يبقى هوبزباوم أميناً لمنهجيته التاريخية في إعادة تركيب الحدث التاريخي كما هو، بعيداً عن إسقاط التحليل الأيديولوجي الراهن أو الحدث التاريخي الحاضر عليه، عندما ينبه إلى أن مواقف من كانوا يدعون للغَرْبَنة في ذلك الوقت ينبغي أن لا تُقرأ أو تُفسر حسب معايير حركات التحرر الوطني، وهي سمة من سمات المراحل التاريخية اللاحقة لعصر رأس المال. ويوضح هوبزباوم بأن الثمن الذي دفعته المجتمعات غير الغربية لاختراقها من قبل رأس المال من خلال تدمير بناها الاجتماعية القديمة وخلق بنى اقتصادية واجتماعية لخدمة متطلبات النظام الرأسمالي العالمي كان باهظا، ولا سيما أن أملها في إعادة صياغة مجتمعاتها ودولها على شاكلة الغرب المتقدم لم يتحقق. وقد اشتركت جميع دول العالم الثالث بهذه النهاية التراجيدية مع الاستثناء الوحيد، وهو اليابان. ويعرج هوبزباوم هنا على السؤال: «لماذا اليابان»؟ وهو أحد الإشكاليات الحاضرة في ذهن المؤرخ أو المثقف العربي، وبخاصة عندما يعاد طرح السؤال بصيغة أخرى: «لماذا اليابان وليس مصر»؟ ويقدم الكتاب ربطاً محكماً لعوامل ربما ساعدت اليابان التي استقبلت الرأسمالية من الخارج ولم تولد فيها، إلى أن دخلت في عداد الدول الرأسمالية ولم تنزلق إلى مرتبة الرأسمالية التابعة. ويتحدث في هذا السياق عن عوامل داخلية ذات علاقة بالبنية الاقتصادية والاجتماعية القديمة في اليابان الأقرب في طبيعتها إلى الإقطاع الأوروبي من غيرها من دول العالم الأخرى. ويضاف إلى ذلك التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها اليابان قبيل استهدافها من قبل رأس المال، ، علاوة على بعدها النسبي عن مركز رأس المال، وفقرها النسبي كذلك، مقارنةً بمصر ذات الموقع الاستراتيجي والموارد الطبيعية الوفيرة، ووجودها على مرمى البصر من مكان ميلاد الرأسمالية في أوروبا. إن «عصر رأس المال»، الذي نشر لأول مرة في 1975، وتوالت طبعاته تِباعاً خلال العقود الثلاثة الماضية، ما زال ذا أهمية محورية بالغة؛ ذلك أن الكثير من الأسئلة والإشكاليات والأحداث التاريخية التي يتعرض لها ما زال مدار نقاش في عالمنا العربي. وقد يسهم نشر هذا الكتاب باللغة العربية إطلاق نقاش وحوار جدي حول بعض الموضوعات الهامة عالمياً وذات العلاقة بمنطقتنا. كما أنه سيكون مرجعاً أساسياً للكثير من المهتمين في تلك الفترة، و أولئك المتعطشين لإجابات حول المساقات التاريخية التي مرت بها المنطقة العربية في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، وأسست لمراحل تاريخية لاحقة. يضاف إلى ذلك، أن هذا الكتاب، شأنه شأن مؤلَّفات إريك هوبزْباوم الأخرى(*)، يطرح بمنظوره الشمولي الموضوعي المعمق نموذجاً متقدماً من أساليب الدراسة التحليلية لكتابة التاريخ، وربما لفهمه، بوصفه، في جوهره، سيرورة حضارية دينامية تتكامل فيها المكونات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية. (*) عصررأس المال (أوروبا 1848- 1875) ترجمة فايز الصُيّـــاغ. مؤسسة ترجمان/ المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008 . (*) عصر الثورة (أوروبا 1789- 1848) ترجمة فايز الصُيّـــاغ. مؤسسة ترجمان/ المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007 . (*) استكملت «الثلاثية»، فغَدَتْ «رباعية» عام 1994، عندما أصدر هوبزباوم «عصر النهايات القصوى: وجيز القرن العشرين، 1914-1991» The Age of Extremes: The Short Twentieth Century, 1914-1991.. وفي هذا الكتاب، يقدم هوبزباوم تحليلاً لما وصفه بالتداعيات والنتائج ’الكارثية‘ التي ترتبت على إخفاق كل من الرأسمالية، وشيوعية الدولة، والحركات القومية، وتقهقر حركة التقدم الاجتماعي والسياسي في النصف الثاني من القرن العشرين. (وسيصدر هذا المؤلَّف، بمقدمة خاصة من إريك هوبزباوم، عن مؤسسة ترجمان/ المنظمة العربية للترجمة، في مطلع عام 2009) (*) انظر التصدير التحليلي المسهب الذي وضعه هوبزباوم لهذه "الثلاثية"، خصيصا للطبعة العربية، ونشر كمقدمة لـ "عصر الثورة". * مركز الدراسات الاستراتيجية الجامعة الأردنية |
|
|||||||||||||