العدد 4 - بورتريه | ||||||||||||||
لا تفارق ذاكرة الأردني «ناجي وليدات» المفرج عنه من السجون الأميركية في العراق قبل نحو ثمانية أشهر لحظات وقوفه في طابور المعتقلين قبالة جنود صوبوا بنادقهم المحشوة برصاص مطاطي نحو هذا الطابور عقاباً لهم بعد إضراب احتجاجي عن الطعام. ويستذكر «وليدات» بدهشة مشوبة بفرح خفر كيف اخطأته الرصاصات، التي سملت إحداها عين أحد رفاقه في سجن أبي غريب حتى بات اقتلاعها مشهداً لا يبرح خياله، على حد قوله. «بعد تلك اللحظة غدت الحياة بلا معنى، فالموت يلازم المعتقل في أي لحظة وهو ما يجهز على الرغبات جميعها»، حسبما يضيف وليدات (35 عاماً) القاطن في بلدة المشيرفة بمحافظة مادبا. ويقول «إذا لم يمت المعتقل برصاصة فهو عرضة لموت نفسي يمارس عليه ليل نهار، بفعل الاعتداءات الجنسية متعددة الأشكال التي تقع عليه، ومنها بقاؤه عارياً». وزاد مفصلاً «أعادونا الى السجن وحشرت ومجموعة من المعتقلين في غرفة مثلجة ساعات طويلة وفي الأثناء كانت تدوي بالقرب منا انفجارات متتالية لقنابل صوتية لترويعنا». ومستعيداً تلك الأيام السوداء، يروي وليدات الذي أمضى عاماً ونصف العام في السجون الأميركية في العراق، لحظة وقوعه في قبضة الأميركيين: «كنا نحو 76 سائقاً أردنياً بشاحناتنا نجتاز جسر الرطبة في طريق عودتنا من قاعدة الوليد في الأنبار بعدما أفرغت حمولاتها من النفط والماء والمعدات أواخر العام 2005، وفجأة انفجرت بالقرب منا ناقلة «همر» أميركية كانت من بين رتل عسكري، أوقفنا جنود أميركيون، واتهمونا بأننا نتعاون مع المجاهدين، فوضعنا بإيعاز منهم متفجرات في إطار كاوتشوك مهترئ أو داخل جوف حيوان ميت أو في إحدى الحفر المنتشرة في عرض الطريق السريع». وقدّر رئيس لجنة الحريات العامة في النقابات المهنية ميسرة ملص عدد المعتقلين الأردنيين في السجون الأميركية في العراق بـ 27 معتقلاً، غالبيتهم من الطلبة والعاملين في التجارة الذين اعتقلوا في أعقاب الحرب بعد آذار/مارس 2003 . وزاد وليدات «حققوا معنا وصادروا جوازات سفرنا، وحين حاولت معرفة سبب مصادرة جوازي، أشهر الجنود سلاحهم بوجهي، وقيدوني بالحديد، وعصبوا عيني، واقتادوني إلى حيث لا أعرف». ووفق أرقام غير رسمية، فإن نحو خمسين من سائقي الشاحنات الأردنيين تعرضوا للقتل خلال عملهم على خط عمّان - بغداد منذ العام 2003 نتيجة انعدام الأمن، فضلاً عن تعرض مئات الشاحنات للسرقة على يد قطاع طرق وعصابات سرقة. وكان سائقو شاحنات أردنيون اتهموا في العام 2005 القوات الأميركية التي كانت تتعاقد معهم لنقل معدات الى العراق بالتخلي عن حمايتهم في طريق العودة الى المملكة، ما يعرضهم للوقوع في قبضة عصابات قطاع الطرق أو الاعتقال لدى الأميركيين أنفسهم، حسب تصريحات صحفية لعدد من أقارب هؤلاء السائقين. وقال وليدات «جرى نقلي والسائق الأردني إبراهيم الدوايمة الذي ما يزال في قبضة الأميركيين الى قاعدة عسكرية صحراوية، ووضعنا في صناديق خشبية ثم الى غرف معتمة قضينا فيها نهاراً كاملاً». وعلى الرغم من إبلاغ الأميركيين بأننا عائدون من قاعدة تتبع لقواتهم في الأنبار، قال وليدات، «ظل الأميركيون يرددون بأننا نتعاون مع المقاومة والمجاهدين حتى اعتدنا أسئلة مثل: كم دفع لك المجاهدون لقاء التفجير؟، وأين جهاز التفجير الذي استخدمته؟». وتابع «توقعت أن أموت عطشاً بعد أن منعوا الماء والطعام عنا، وبعدها نقلونا معصوبي الأعين ومقيدين على متن مروحية الى قاعدة صحراوية أخرى ذقنا فيها الأمريّن، إذ جرى احتجاز كل منّا في قفص حديدي لا تتجاوز مساحته متراً مربعاً، وفيه ألقوا إلينا بماء ساخن قالوا إنه للشرب، وقد ضربونا بشدة، وأهانونا بتعريتنا والتحرش بنا، لينقلونا مرة أخرى، وكنا نحو 80 معتقلاً، الى سجن أبي غريب الذي أمضينا فيه شهراً ونصف الشهر، ثم جرى نقلنا الى سجن «بوكا» في محافظة البصرة الذي عشنا فيه ظروفاً صعبة للغاية طيلة أربعين يوماً، ليعيدونا من بعد ذلك الى أبي غريب ثانية». وقال: إن السجانين في أبي غريب كانوا يصبون جام غضبهم على المعتقلين، إذا ما تعرض جنودهم لمقاومة في الخارج، ويتذكر: «شاهدت عن كثب تنفيذ أحكام بالإعدام وتكسيراً للأيدي والأرجل في السجن الرهيب». وأضاف «أن الأميركيين ورغم إقرارهم بأني بريء، كانوا يمعنون في تعذيبي، ويعدونني باطلاق سراحي طوال سنة ونصف السنة الى أن جرى عرض قضيتي وآخرين أواسط العام الماضي على قاض عراقي، أصدر حكماً بإخلاء سبيلي ومجموعة من السجناء، إلاّ أن القوات الأميركية رفضت تنفيذ الحكم». وذكر وليدات في أن نحو مائة أردني كانوا محتجزين في المعتقلات الأميركية في العراق في وقت اطلاقه من المعتقل قبل نحو ثمانية أشهر، نافياً ما تردد رسمياً من أن عددهم لا يتجاوز 24 معتقلاً. ويستذكر وليدات أن الأميركيين نقلوه الى سجن كروبر بمطار بغداد «أخضعونا لمختلف أنواع التعذيب، ما أفقد عدداً منا أهليته العقلية بسبب التعذيب النفسي والجسدي»، مؤكداً إقدام الأميركيين على نقل عدد من المعتقلين الى الصحراء وتصويرهم مع أسلحة ليبدوا وكأنهم إرهابيون جرى إلقاء القبض عليهم، وهو ما بثه الأميركيون لاحقاً في صور وأشرطة فيديو. ويوضح أن رفيقه في السجن إبراهيم إسماعيل الدوايمة الذي يمضي عامه الثاني جرى نقله من سجن أبي غريب الى سجن الكروبر في مطار بغداد خلال العام الماضي، وقال إن المعتقل الدوايمة لا يعرف طبيعة التهمة الموجهة إليه. ومن بين المعتقلين المفرج عنهم أحمد رشاد الجعبري الذي نقل من بغداد الى عمان أواخر العام الماضي، حسبما يقول وليدات. وكانت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية نشرت صوراً لعمليات تعذيب ارتكبها جنود أميركيون بحق معتقلين في سجن أبي غريب في صيف 2003، ما أشعل موجة غضب عالمية، فيما اعتبرت منظمة الصليب الأحمر الدولية أن الصور لم تكشف الحقيقة عن قسوة التعذيب وممارسته بعنف شديد. وتشمل مجموعة الصور المنشورة في الصحيفة الأميركية أكثر من 1000 صورة رقمية، تجمع بين مشاهد للحياة العسكرية اليومية وصور لمحاكاة جنسية بين الجنود. وسجن أبي غريب عبارة عن مبنى ضخم يقع غرب العاصمة بغداد، أنشئ في عقد الستينيات من القرن الماضي على يد مقاولين بريطانيين، وله شهرة عالمية حين استخدم للتنديد بممارسات حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي بنى ما أسمته الصحافة الغربية «جمهورية الخوف». وبعد أن يوضح أن اليأس من استجابة الأميركيين بوقف التعذيب يدفع المعتقلين الى التمرد بين الحين والآخر في مسعى لتحريك قضيتهم أو الحد من ثني جنود الاحتلال عن ممارسة التعذيب، يؤكد وليدات أن الأميركيين لا يأبهون بحركات الاحتجاج، ويقدمون على قمع أي حركة تمرد بشدة . وقال: «تشهد الزنازين وخنادق السجون أهوالاً يصعب سردها». ولأنهم يدركون موقع السمعة والشرف لدى العربي، يؤكد وليدات أن «جنود الاحتلال يقدمون عامدين على إهانة المعتقلين جنسياً وارتكاب هذه الفظاعات بحقهم». وأضاف بأسى «ما تزال تتردد في مسامعي صرخات النساء والرجال وهم يئنون تحت التعذيب، وكأنها وقعت للتو، فأي ديمقراطية يزعمون؟». ويسترسل وليدات واصفاً مشاعره لحظة سؤال سجانه له عن المنطقة التي يفضل ان ينقلوه اليها لحظة اطلاقه، موضحاً «لم أصدق واعتبرتها سخرية سمجة وتلاعباً بالمشاعر، ولم أتيقن من خروجي من أبي غريب إلاّ لحظة تأكيد السجان على معرفة المنطقة التي أريد ان ينقلوني إليها، فطلبت تسليمي الى بلدي لأتفاجأ بإلقائي في منطقة العلاوي الشيعية بوسط بغداد لجعلي عرضة للقتل على يد ميليشيات بدر التي كانت تصول وتجول في المنطقة وتقتل على الهوية، لكن القدر قيظ لي أحدهم ليساعدني في الخروج من المنطقة». وفي سجن أبو غريب تورط الجندي الأميركي تشارلز جارنر في فضيحة صور استعرضها أمام أحد زملائه ويدعي «جوزيف داربي»، لكن هذا الأخير قام في كانون الثاني/ (يناير) 2004 بالإبلاغ عن أفعال وصفها بأنها حاطة بالكرامة الإنسانية وأعمال تعذيب يمارسها جنود أميركيون ضد سجناء عراقيين. كما أدلى داربي بشهادته ضد زملائه تشارلز جارنر وليندي إنجلاند، المجندة صاحبة الصورة الشهيرة التي تمسك فيها بحبل ربط به سجين عراقي ملقى على الأرض. وفي تسلسل تداعيات فضيحة سجن أبي غريب، أصدر قائد قوات التحالف في العراق آنذاك الجنرال ريكاردو سانشيز في 19 كانون الثاني/ (يناير) 2004 قراراً يقضي بفتح باب التحقيق في ادعاءات داربي، بحيث تشمل الفترة الزمنية التي يعالجها التحقيق من 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 حتى يوم صدور قرار التحقيق في 19 كانون الثاني/ يناير 2004. وكانت النتيجة ان حكم علي تشارلز جارنر في كانون الثاني/ يناير 2005 بالسجن 10 سنوات، بينما حكم على زميلته ليندي إنجلاند بالسجن ثلاث سنوات فقط. ويقول مفرج آخر عنه آثر عدم كشف اسمه «كنت أملك شركة في بغداد منذ فترة طويلة، وأثناء تجوالي وأحد أصدقائي فوجئنا بدورية لمغاوير الشرطة العراقية توقفنا، وعقب معرفتهم جنسيتنا الأردنية صادروا كل مقتنياتنا، إضافة إلى سيارتي الخاصة». ويضيف: «جلبنا إلى مقر الشرطة معصوبي الأعين ومكتوفي الأيدي ولا نعرف السبب، فقط لأننا غير عراقيين، أو هكذا زعموا فانتظرنا ساعات عدة بعد أن وعدنا بإطلاق سراحنا، الى أن وجدنا أنفسنا وقد سلمنا الى قوات الاحتلال الأميركي». ويقول إنه وبعد طول انتظار تم نقلنا إلى مطار بغداد، وأجرى الأميركيون تحقيقاً معنا، ليعيدونا الى سجن أبي غريب، حيث أمضينا ثلاثة أشهر، ثم إلى سجن بوكا بالبصرة «وهناك خطر لي أنني ذاهب إلى معتقل غوانتانامو، لكثرة تجوالنا بين المعتقلات». ويروي «في سجن بوكا شاهدت كيف قتل الأميركيون عدداً من السجناء، وكان السجّانون يجبروننا على النوم في العراء في الأيام الباردة، كما كانوا يلقون بمن يحلو لهم من المعتقلين في صندوق حديدي مثلج ولفترات طويلة». ويؤكد بأن التهم تكال إلى الموقوفين جزافاً وسخرية، «فقد وجهوا لأحد المعتقلين تهمة عدم الرفق بالحيوان، والى آخر النظر بعدم الرضا إلى جنود الاحتلال». وتضم سجون «بوكا» في البصرة، و«بادوش» في الموصل، و«الكروبر» في مطار بغداد، و«سوسا» في السليمانية نحو 100 ألف معتقل، ولم تكن مبانيها سجوناً قبل الاحتلال. «الحكومة لم تتحرك بشكل جاد من أجل إطلاق سراحهم»، يؤكد والد أحد المفرج عنهم، مشيراً إلى أن قضية المعتقلين الأردنيين في السجون العراقية ما تزال تراوح مكانها. ويوضح أن ابنه عاش ظروفاً مرعبة في سجن أبي غريب نتيجة انتهاكات مستمرة يمارسها جنود الاحتلال. ويروي أنه زار السجن واطلع على الأوضاع المزرية التي عاشها المعتقلون، مطالباً الحكومة التدخل لفك قيدهم. ويؤيد مفرج عنه ما رواه زملاء في السجن. ويقول «كل ذلك يجري في العراق الذي تحول الى معتقل بمزاعم تحويله الى واحة للديمقراطية، فيما الواقع يؤكد أنه تحول الى جهنم وساحة للموت بالرصاص والمفخخات وسواها من أشكال الموت المختلفة التي جلبها المحتل». ويضيف: «لا يختلف المشهد كثيراً في معتقل غوانتانامو الشهير، الذي تحتجز فيه القوات الأميركية مئات المعتقلين العرب والمسلمين بعد غزو أفغانستان في العام 2002». |
|
|||||||||||||