العدد 24 - حريات | ||||||||||||||
سامر خير أحمد أحبّ أنيس محمد قاسم (29 سنة) اللغات الأجنبية، وبخاصة الإنجليزية والفرنسية، منذ صغره، وتمنى بسبب ذلك أن يكمل دراسته الجامعية في تخصص "اللغات". لكن أهله أصروا عليه أن يختار إما الطب أو الهندسة في طلب دخول الجامعات الحكومية، لأنه أحرز معدلاً عالياً نسبياً في الثانوية العامة (حوالي 94 بالمئة). وافق أنيس رغم أنه يؤكد أن ضغط الوالدين عليه في هذا الخصوص لم يكن كبيراً، لكنه خشي أن يكون خياره متسرعاً، معتقداً أن لدى أهله خبرات أوسع منه في الحياة، وأنهم يعرفون بالضرورة مصلحته أكثر منه. درس أنيس تخصص الصيدلة، لكنه لم يحب مهنة الصيدلة يوماً كما يقول، وقد راودته نفسه غير مرة في العودة إلى الجامعة، ودراسة "اللغات" من جديد، لكن ذلك لم يكن متاحاً موضوعياً بسبب انخراطه في سوق العمل، ومن ثم ضيق وقته، فضلاً عن أنه لن يقدر –نفسياً- على مزاملة من يصغرونه سناً ويختلفون عنه في الهوى والميول والطباع. يقول أنيس إنه يشعر بشيء من "الحسد" تجاه من يصادفهم ممن درسوا "اللغات"، ويستغرب كيف أن معظمهم لا يدركون "النعمة" التي هم فيها، حين يقولون له إن الصيدلة أفضل من اللغات! ربما تمثل قصة أنيس، حالة متكررة في مجتمعنا الأردني، حيث تفضل العائلات أن يدرس أولادها الطب، فيحصلون على لقب "دكتور"، أو الهندسة، فيكون لقب واحدهم "مهندس". ليس الأمر مرتبطاً فقط بالاستثمار في هذه الأنواع من التخصصات الدراسية التي ظلت حتى وقت قريب تضمن لدارسيها وظائف توفر دخولاً مالية عالية، بل هو قبل ذلك على علاقة وثيقة بالمكانة الاجتماعية، والوجاهة المفترضة للطبيب والمهندس، التي يطرب لها المجتمع، وتسعد بها عائلات هؤلاء الأطباء والمهندسين. آباء آخرون يحثون أولادهم على دراسة تخصصهم نفسه، كي يرثوا المهنة عنهم. تتزايد هذه الحالات في أوساط مهنية يكون فيها الآباء قد أنشأوا أعمالاً ناجحة، يريدون لها أن تستمر على أيدي الأبناء، وبخاصة في مهن الطب والمحاماة، من دون أن يأخذوا باعتبارهم رغبات أولادهم وميولهم. وضّاح (31 سنة)، وهو ابن لمحام، درس القانون بناء على إلحاح والده، ويعمل معه حالياً في مكتب المحاماة نفسه. ما يزعج وضّاح حالياً ليس فقط أنه لا يحب مهنته، بل أنه يعيش حياته العملية في ظل أبيه، إذ مهما حقق من نجاحات، فإن أحداً لا يأخذها على محمل الجد، لأنه بالنسبة للناس ابن أبيه وتلميذه، فالنجاح يُنسب للأب، ولا يُمتدح هو إلا من زاوية أنه ابن الأستاذ الفلاني، لا باعتباره هو الأستاذ وضّاح، المحامي "الشاطر"! ثمة قصص أخرى أكثر إثارة للحزن، أدى تدخل الوالدين فيها لتوجيه الأبناء بعيداً عن التخصصات التي يرغبونها، في إفساد حياتهم كلها، والتسبب بتعاستهم، وأحياناً إلى فشلهم في الحصول على الشهادة الجامعية، لأنهم لم يتمكنوا من مواصلة دراسة ما لا يُحبونه ولا يُطيقونه ولا يفهمونه. وسط ذلك، ثمة قصص أخرى مبهجة، تمكن فيها الأبناء من الإفلات من رغبات والديهم، فحققوا نجاحاً في حياتهم العملية، لم يكن لهم ليبلغوه لو تنازلوا عن رغباتهم الدراسية وأطاعوا رغبات الأهل النمطية. منير عبد الرحمن (29 سنة)، واحد من هؤلاء، قرر في سنته الدراسية الثالثة أن يترك دراسة الهندسة الميكانيكية التي دخلها بناء على رغبة والده، ليبدأ من جديد دراسة علم الاجتماع، وهو التخصص الذي كان يرغب في دراسته. أنهى منير دراسة علم الاجتماع في ثلاث سنين ونصف السنة، وهي فترة تقارب ما كان يلزمه لإنهاء دراسة الهندسة في اللحظة التي غيّر فيها تخصصه، بمعنى أنه لم يخسر كثيراً من الوقت، لكنه ربح حياته كلها كما يقول، وقد عمل فترة من الوقت في تحرير أحد مواقع الإنترنت، وكان يشعر بسعادة غامرة في عمله، وهو الآن يواصل دراساته العليا ليتعمق أكثر في تخصصه، متأكداً أنه سيصير أستاذاً جامعياً ناجحاً، واسماً لامعاً في هذا المجال. هؤلاء الذين تضطرب حياتهم بفعل تدخل والديهم في اختيار تخصصهم الدراسي، ليسوا ضحية الآباء بالدرجة الأولى، بل ضحية المنظومة القيمية الغريبة التي صاغها المجتمع، وانصاع لها الآباء، ومفادها أن ثمة تخصصات دراسية "أوجه" من سواها وأرفع قدراً. لا يدرك المجتمع، هنا، أن الإبداع والتفوق الذي تحتاجه المجتمعات والدول كي تنهض، لا يمكن أن يتحقق إلا على أيدي من يحبون مهنهم، أي يحبون تخصصاتهم الدراسية، فما فائدة شهادات الطب، إذا لم يحملها من يبدع في عمله، ويبتكر جديداً فيه؟ إن فناناً واحداً مبدعاً ومتميزاً، خيرٌ للمجتمع من ألف مهندس تقليدي غير مبدع، لا يغادر ما تعلّمه في كتب الجامعة. من الشواهد التي تدل على أن تدخل الوالدين والأهل وعموم المجتمع لتوجيه الأبناء نحو تخصص دراسي معين، سببه الاهتمام بالألقاب، لا بالعلم نفسه، يقول بسام (34 سنة) وهو صاحب محل لتنظيف الملابس (دراي كلين) إن عدداً كبيراً من الزبائن يوردون ألقابهم حين يسألهم عن أسمائهم لتدوينها على وصولات استلام الملابس، فيقولون: إن هذا القميص عائد للدكتور الفلاني، أو إن هذه البدلة سجلها باسم المهندس كذا،.. إلخ. ويتساءل بسام ساخراً: إنني أسألهم عن أسمائهم، فلماذا يصرّون على تعريفي بوظائفهم أيضاً؟! للتعليق وإبداء الرأي: www.al-sijill.com |
|
|||||||||||||