العدد 24 - أردني | ||||||||||||||
نهاد الجريري على الرغم من السماح بالعمل السياسي وبتواجد الأحزاب واتساع هامش حرية التعبير نسبياً، فإن العرائض، التي تذكر بالمنشورات السرية التي كانت تستخدم في فترة الأحكام العرفية، والتي يفترض أنها تقدم في حالات انحسار الديمقراطية وتراجع الحريات الديمقراطية، ما زالت شكلا احتجاجيا أو مطلبيا يجري استخدامه بين آن وآخر. العريضة أو البيان الجماعي بهذا المعنى هي نوع من الاحتجاج وشكل من أشكال النضال الشعبي الذي يضاف إلى، ويتوازى مع أشكال الاحتجاج الأخرى التي تقوم بها الأحزاب والتنظيمات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني. قبل أيام، وقعت 76 شخصية أردنية: نيابية وحزبية ونقابية وعشائرية بتوقيع عريضة تحذر من "خطورة" الارتفاع الأخير في الأسعار على "السلم الأهلي." وفي صورة أو أخرى، فإن هذه العريضة تمثل استمرارا لهذا النوع من الاحتجاج الذي شهد الأردن نشاطا له كان يزدهر أو ينحسر بحسب ظروف البلاد. و من العرائض الشهيرة في السنوات الأخيرة ما صار يعرف بعريضة ألـ 99 "المناهضة للحرب على العراق" والتي وقعتها 99 "شخصية" في آذار 2003. هذه الشخصيات كانت تمثل "أيديولوجيات" ومواقف وثقافات سياسية متباينة في معظم الأحيان. منهم: مضر بدران، ويعقوب زيادين، وسميح بينو، وليث شبيلات، وعبدالرؤوف الروابدة، وأحمد عبيدات، بين آخرين. ويلاحظ أيضا في قائمة الموقعين على هذه العريضة أنها ضمّت رؤساء وزراء سابقين نُفذت في عهدهم سياسات شبيهة بالسياسات التي اعترضوا عليها لاحقا، جنبا إلى جنب مع شخصيات معارضة لسياسات رؤساء الوزارات تلك. محمد المومني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك، يرى أن "توقيع العرائض هو أحد طرق المشاركة السياسية المشروعة في التأثير على صانع القرار،" بحيث تكون أداة ضغط فاعلة في إيصال الرأي العام إلى صانع القرار. ويفرق المومني بين العريضة وأشكال الاحتجاج الأخرى مثل الاعتصامات والتظاهرات، إذ يعتبر أن العرائض تُرفع "لأن الشخصيات الموقعة عليها لا تريد أن تحدث حالة من التعبئة السياسية حول موضوع أو قضية ما، وإنما تريد أن توصل كلمتها إلى صانع القرار، أو أن تشكل موقفا يتعلق بالقضية المطروحة." لكن طاهر المصري، رئيس الوزراء الأسبق، يرى أن العريضة تأتي لتملأ الفراغ الناجم عن "غياب الأحزاب القوية على الساحة الأردنية، وتغييب دور مجلس النواب ووضع محددات على الإعلام،" وإن كان لا يعتبر في هذا تناقضا مع وسائل التعبير الأخرى، "إذا سُمح بها." عام 1989: ما قبله وبعده عبلة أبو علبة، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الديمقراطي (حشد)، تذهب في الاتجاه نفسه، وتقول إن "العريضة كشكل من أشكال الاحتجاجات أو التحريض السلمية كانت أكثر رواجا في فترة ما قبل عام 1989 إبان الأحكام العرفية،" وتعتبر، من خلال ملاحظة سريعة لنشاطاتها في تلك الفترة وما بعدها، أن عدد العرائض بعد 1989 قلّ، وأن "وظيفتها" تراجعت قليلا. وتشرح أبو علبة: "بعد عام 1989، ظهرت أشكال أخرى من الاحتجاج غير العرائض، فصارت مساحة الكتابة الحرة أوسع نسبيا، بالإضافة إلى السماح بالاعتصام والاحتجاج." لكن أبو علبة تستدرك أن وسائل التعبير الأخرى هذه ما تزال عرضة لمحددات مثل قانون الاجتماعات العامة، ما يعيد إلى العرائض وظيفتها وأهميتها. فهمي الكتوت، الناشط السياسي، يعتبر أن قوانين مثل الاجتماعات العامة، وقانون الانتخابات المؤقت، وحتى المطبوعات والنشر، ساهمت في "تقزيم" مهمة العريضة. ويشرح "أن المجتمع الأردني حقق إنجازا بالانفراج السياسي في 1989 كان من المفترض أن يتجاوز معه مرحلة العرائض، إلا أن الأحداث اللاحقة من حل البرلمان وإصدار قانون الصوت الواحد، أشعرت البعض بالإحباط وبأن عليهم أن يعودوا إلى مرحلة الصفر،" فيما يتعلق بالمطالبة بتوسيع الحريات العامة. العريضة .. لون أو أطياف؟ تلحظ أبو علبة أن مجمل العرائض التي راجت قبل 1989 كانت منسجمة إلى حد كبير فيما يتعلق بالخلفيات السياسية والعقائدية للموقعين عليها. وتقول "إن المطلب السياسي في تلك الفترة كان أكثر وضوحا،" إذ تركزت العرائض في جزء كبير منها على المطالبة بتأسيس نقابات أو الإفراج عن المعتقلين السياسيين – مثل عريضة عام 1986 التي وقعت عليها 100 شخصية ذات خلفيات حزبية واشتراكية وشيوعية. وتعتبر أبو علبة أنه كان "من الصعب أن تلتقي "شخصية عشائرية وحزبية" على وثيقة واحدة. أما بعد 1989، فتقول أبو علبة إن المنطقة تعرضت "لزلازل" سياسية مثل "احتلال العراق، واتفاقية أوسلو ووادي عربة ... وهي أمور أثرت على الجميع،" حتى التقت مصالحهم في مطلب إقليمي واحد. طاهر المصري، أحد الموقعين على عريضة ألـ 99، يستغرب الإصرار على وصف الشخصيات الموقعة على عريضة ما "التناقض"، لمجرد أنهم لا يلتقون فكرياً، أيديولوجياً وربما سياسياً. ويقول "لا غرابة في هذا الأمر لأن العريضة لا تعبر عن أيديولوجيا، بل عن موقف سياسي عام تم التوافق عليه،" وهو مناهضة "الاحتلال الأجنبي لبلد عربي عريق مثل العراق." ويتابع المصري: "مثل هذا الموقف لا يحتمل التناقض بل هو موقف منطقي بالنسبة لكل الموقعين على العريضة." آلية رفع العريضة المؤرخ والناشط السياسي بهجب أبو غربية يشرح: "تلتقي فعاليات حزبية ومستقلة وإعلامية لبلورة صيغة معينة لهذا الرأي، وتبدأ عملية استقطاب التواقيع،" من خلال الاتصال بشخصيات أخرى عامة "تُقرأ" عليهم العريضة، ويكون التوقيع اختياريا. ويلفت المومني إلى أن هذه العملية "قد يشوبها نوع من المجاملة أو المخاجلة." لكن النائب الإسلامي حمزة منصور، أحد الموقعين على عريضة الـ 76، يرفض مثل هذه الفكرة ويقول "العرائض مهمة؛ فيها مضامين قوية، وبخاصة إذا كانت موجهة إلى رأس الدولة." وهو أمر لا يحتمل المجاملات كما يرى. الاستجابة للعريضة من الملاحظ أن العرائض، في مجملها، تفتقر إلى المتابعة، فينتهي بها الأمر في أدراج الحكومة أو مجلس النواب، دون أن يتخذ حيالها إجراء لجهة التنفيذ، وهو ما حدث مع العديد من العرائض الشعبية التي رفعت إلى مجلس النواب بخصوص الارتفاع المطرد في الأسعار أخيرا. المصري يعلل ذلك بأن "العريضة هي إعلان موقف ويترك للحكومة التعامل مع هذا الموقف." ويضيف: "الموقعون على العريضة لا ينتمون إلى تنظيم أو جمعية معينة، بل هم مجموعة أشخاص وقعوا على عريضة و أعلنوا موقفاً سياسياً وللحكومة والأحزاب أن تتابع." وبالعودة لعريضة الـ 99، فبعد أيام من رفع العريضة وفي 3/4/2003 تحديدا، وإزاء الاحتقان الشعبي الهائل ضد الحرب على العراق، قامت الدولة ممثلة برئيس الحكومة آنذاك علي أبو الراغب باستدعاء السفير الأميركي في عمان إدوارد غنيم للتعبير عن إدانة الأردن للحرب. وقامت شبكة الأخبار الأميركية CNN ببث خبر ذلك اللقاء على موقعها الإلكتروني، مشيرة إلى أن "مصدرا دبلوماسيا" علّق بقوله "من غير المألوف وغير الطبيعي في الأردن استدعاء السفير الأميركي وتسليمه بيانا فيه عبارات مباشرة وصارمة.» الموقع ألمح إلى أن هذا الاستدعاء أتى بعد أيام من نشر عريضة الـ 99. إلا أن سياسة الأردن في حقيقة الأمر لم تتغير على أرض الواقع تجاه الحرب. وهكذا يعتبر فهمي الكتوت أن الحكومة تستجيب فقط للعرائض التي «تتناول قضايا محدودة غير جوهرية،» أما غيرها من قضايا فلا تجد آذانا صاغية. ويدلل بأن عريضة ألـ 76 الأخيرة التي تحذر من الارتفاع المطرد مؤخرا في الأسعار وإجراءات الحكومة ببيع الأراضي المملوكة للدولة، وإن كانت «لافتة» من حيث لغة الخطاب فيها، فإنها لم تنجح في «إيصال الرسالة إلى صاحب القرار كما يجب،» وذلك عندما اجتمعت الحكومة في خلوتها الأخيرة «إلى نفسها» بدلا من أن «تحاور الآخر.» كتوت يشير كذلك إلى عريضة الـ 70 عام 1997، التي كانت احتجاجا على قانون الصوت الواحد. يقول إنها أفضت إلى مقاطعة الانتخابات «من دون أن تترك أي أثر عند الحكومة بالرغم من القوى المؤثرة والفاعلة التي وقعت عليها.» عودة الروح إلى العريضة بوصفها شكلا من أشكال الاحتجاج يطرح عددا من الأسئلة حول الأسباب الكامنة وراء ازدهار هذا الشكل الاحتجاجي في زمن يفترض أنه زمن ديمقراطي، حول ما إذا كانت العريضة قد تحولت إلى «آخر الدواء»، بعد فشل أشكال النضال الأخرى في تحقيق الكثير من المطالب الشعبية، وأخيرا حول ما إذا كانت العرائض هي كل ما عاد يجمع بين الشخصيات المعارضة |
|
|||||||||||||