العدد 23 - أردني
 

القدس - بعيداً عن الأهل والمنزل في بيت لحم، ينشغل الشاب، مجدي دعنا، منذ ست سنوات بما يتاح في غزة من برامج تعليمية وتأهيلية، للتحايل على الوقت في هذا «المنفى» الذي وجد و25 تلحمياً آخرين أنفسهم فيه، عقب 39 يوماً من الحصار داخل كنيسة المهد.

دعنا الذي كان يبلغ من العمر 24 عاماً عند إبعاده، متشائم الآن من إمكانيات حل قضيتهم في ظل التسويف والاشتراطات الإسرائيلية غير المحدودة، وهو ما جعله يخشى من ديمومة هذا «الإبعاد المؤقت». «منذ أربع سنوات صدرت تصريحات إسرائيلية تتحدث عن موافقة مبدئية بعودة 20 من أصل 26 من مبعدي كنيسة المهد الى غزة. وبعد عودة الاتصالات السياسية مع الإسرائيليين أعيد فتح هذا الملف بقوة. لكن ما صدر عن جهاز الشاباك في 30 آب/اغسطس 2007 استثنى مبعدي حماس والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية. أما البقية، وهم من فتح، فسيدرس ملف كل واحد منهم على انفراد.

في اللقاء الأخير المفاجئ، بين الرئيس أبو مازن، وأولمرت، أبدى الأخير استعداده لإعادة أربعة فقط على أن تنطبق عليهم شروط المطاردين المشمولين بالعفو من حيث فترة الاختبار وما شابه». يقول دعنا في اتصال هاتفي من غزة.

في الأول من نيسان/أبريل 2002 لجأ عشرات المطلوبين من مقاومين وسياسيين الى كنيسة المهد ضمن مجموعة من المواطنين بلغت نحو 250 شخصاً، عند اجتياح جيش الاحتلال لبيت لحم في إطار حملة «السور الواقي» التي أعادت فيها إسرائيل احتلال مناطق السلطة المصنفة «أ».

يستعيد دعنا تلك التجربة التي تحل ذكراها السنوية السادسة هذه الأيام، بما تخللها من جوع وخوف وحزن وأعصاب مشدودة. يقول: اعتقدنا أن قدسية المكان قد تمنع الإسرائيليين من الاعتداء عليه بعد أن لجأ إليه مقاومون ومواطنون وعناصر أجهزة أمنية وأطفال، ولم يكن مخزون طعام الرهبان يكفي سوى عشرة أيام، بعد ذلك اضطررنا لأكل الأعشاب وأوراق الشجر وسواه.

ويضيف:«مثل هذا الأمر كلف البعض حياتهم، فقد كان قناصة الاحتلال يتربصون بأي جسم متحرك خلف نوافذ الكنيسة أو في باحتها الداخلية». واستشهد سبعة محاصرين وثامن متأثراً بجراحه، وأصيب نحو 27 آخرين خلال أيام الحصار بنيران قوات الاحتلال التي حاولت في احدى المرات اقتحام الكنيسة، واستخدمت مكبرات الصوت لإطلاق التهديدات والشتائم، وعمدت الى التشويش على الاتصالات الخلوية.

يستذكر دعنا اثنين من الشهداء سقطا في يومين متتاليين هما : حسن النسمان، وخالد أبو صيام من أفراد الأمن الوطني. «هذان الشهيدان بقيا بيننا 17 و18 يوماً. وضعناهما في تابوتين وأنزلناهما الى منطقة سفلية وعند إخراج الجثمانين كانا كمن استشهد قبل يوم فقط، من دون رائحة أو تعفن أو تيبس والدماء سالت منهما. أما باقي الشهداء، فلم يمكثوا سوى ساعات قبل إخراجهم.

تسعة وثلاثون يوماً من الحصار والمعاناة، انتهت بصفقة مع إسرائيل تقضي بإبعاد 13 شخصاً الى بلدان أوروبية و26 الى قطاع غزة، فيما أفرج عن البقية بعد استجوابهم.

ويقول دعنا: أبلغنا بمضمون الصفقة، وأنه سيتم فور وصولنا الى غزة تسليمنا نسخة من الاتفاق، وإعلامنا بفترة الإبعاد، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وبعد اتصالات حثيثة مع رام الله، أبلغنا شفوياً أنه في حال قيام دولة فلسطينية أو بانسحاب إسرائيل لحدود 28 سبتمبر/أيلول 2000 سيجري الحديث في عودتكم الى بيوتكم.

لحظة الخروج في 10 أيار/مايو 2002، هي الأكثر قسوة في هذه التجربة، كما يقول دعنا. «فبعد 39 يوماً من الحصار الجوع والقتل وشد الأعصاب، لم يسمح لنا بوداع الأهل، وكنا نرى الكثيرين يعتلون أسطح البيوت القريبة ويلوحون وينادون على أبنائهم. ولا يمكن نسيان صوت إحداهن تنادي شقيقها إبراهيم. ما ملأ قلوبنا غصّة ومرارة في وقت لم نكن نرغب فيه بأن نظهر ضعفنا وانكسارنا أمام المحتلين. يضاف الى ذلك أننا ودعنا 13 أخاً، وحده الله يعلم إن كنا سنلتقيهم مرة اخرى أم لا.

وبالنسبة للأهل لم يكن الخروج وفق هذا السيناريو أقل قسوة، كما تقول شقيقة المبعد مجدي، مها دعنا: «تابعنا الحدث عبر التلفزيون، ولم نحاول الاقتراب كما فعل الغير، وقد كانت من أقسى اللحظات لا سيما أن مجدي هو الأصغر والوحيد بين أربع فتيات، وكنا نستعد لتزويجه في الصيف القريب».

وتضيف: بمقدار فرحتنا بخروجه من الكنيسة على قدميه، إلا أن مخاوف كثيرة ساورتنا بسبب غموض الاتفاق والوضع القاسي في القطاع وصعوبة الخروج أو الدخول منه وإليه.

الطريق الى غزة بالنسبة للمبعدين من كنيسة المهد تمر عبر معسكر «عتصيون»، الذي نقل جميع المحاصرين إليه للتحقيق. ويقول المبعد مجدي: علمنا أنه سيتم إشراف دولي على عملية النقل الى غزة، لكن لم ترافقنا سوى كلاب بوليسية وجنود مسعورون، حيث نال كل واحد منا نصيبه من الضرب والشتائم».

«في غزة ورغم حفاوة الاستقبال شعبياً ورسمياً، وما وفر لنا من مساكن ورواتب وغيرها، إلا إننا أصبنا بنوع من الصدمة. كل شيء كان مختلفاً، البيئة والعادات، وطباع الناس ونمط الحياة..».

دعنا وأربعة مبعدين آخرين ظلوا عازبين، وسبعة تزوجوا في غزة، والبقية التحقت بهم زوجاتهم وأبناؤهم من الضفة، لأنهم لا يعرفون متى سيعودون الى بيوتهم الأصلية. يقول دعنا: مع تضاؤل الأمل بالعودة بدأت أفكر جدياً بالزواج وتكوين أسرة هنا، لكن يعز علي حرمان أهلي من فرحتهم بابنهم الوحيد.

قرابة عام مضى قبل أن يتمكن دعنا وزملاؤه من عناق أحبتهم الذين وصلوا غزة، للمرة الأولى عن طريق الأردن، ومطار العريش، ومعبر رفح. وتقول مها دعنا إن تلك اللحظة عصية على الوصف، «استعدنا الإحساس بالأسرة الواحدة للمرة الأولى بعد إبعاد مجدي. أبي وامي وواحدة من شقيقاتي، أمضينا ثلاثة أشهر عنده تحت سقف واحد. شعرنا في حينه أن غزة هي أبعد مكان في العالم.

«ولكي لا نتركه وحيداً قررنا تقسيم العائلة بابقاء الوالدة معه، وقد أقامت معه ثلاث سنوات. وخلالها تمكنا من زيارته خمس مرات: اثنتان عن طريق الأردن ومصر والبقية بتصاريح.

وتضيف: قبل عام ونصف العام وعند توجهه لأداء فريضة الحج، طلب من الوالدة العودة الى بيت لحم حتى لا يحرمها من باقي أسرتها. منذ ذلك الحين لم نستطع زيارته بسبب الإغلاق الكامل لقطاع غزة، ولم يعد هناك مجال للتواصل إلا بالهاتف.

أما والدة المبعد مجدي التي تتمنى لو أنها لم تتركه وحيداً هناك، فلا يغيب نجلها الوحيد عن بالها وتتذكره كلما أعدت وجبة يحبها، وفي كل حفل زفاف تتمنى لو تفرح به.

مبعدو كنيسة المهد الى غزة: إسرائيل تحول المؤقت” دائماً
 
24-Apr-2008
 
العدد 23