العدد 4 - بورتريه | ||||||||||||||
في واحدة من مداخلاته الفكاهية القديمة، كان رئيس الوزراء الأسبق عبدالرؤوف الروابدة قد وصف الديمقراطية الأردنية بأنها كانت في سنواتها الأولى «ديمقراطية على جوع» ولذلك أقبل الناس عليها بِنَهَم. وبالطبع كان هذا التوصيف قبل أن يتولى السيد الروابدة منصب رئاسة الوزراء، وهو المنصب الذي يلعب دوراً رئيسياً في إدارة وتوجيه الشبع والجوع السياسيين، أو على الأقل هو المنصب الذي يقوم عادة بتوصيل الطلبيات أو الوجبات الجاهزة. نستطرد هنا قليلاً في هذا التوصيف «الغذائي» للديمقراطية -بعد إذن صاحبه- إذ لا يبدو الناس اليوم وبعد حوالي عقدين على «الأكل» أنهم شبعوا من الديمقراطية رغم كل ما ازدردوه منها، ومع ذلك فمن الواضح أنهم لم يعودوا يقبلون عليها بِـنَهم أو حتى من دون نهم، وقد انقسموا كـ«أكيلة ديمقراطية» الى عدة أقسام: كثيرون «كشّت» نفسهم عنها، وغدت بالنسبة لقسم آخر وجبة عسيرة على الهضم أو هي مضطربة النسب والكميات، أو أنها طبخت على عجل أو أن طباخها غير ماهر بما يكفي، ولكن بالطبع مع وجود نسبة من الذين ما يزالون يرون أنها تؤكل بل وتؤكل أصابعهم بعدها، وذلك باعتبار أن الناس في الأكل أذواق، فضلاً عن حق البعض أن يتبع مبدأ «الطايح رايح» في الأكل. المختبر الكبير لنستعيد باختصار شديد بعض ملامح الفترة ما بين 89 الى 92 عندما انخرط الأردنيون في نقاش مفتوح شارك به مئات الألوف منهم، وهو نقاش تناول مجمل القضايا وبشتى الأشكال والأساليب، فقد تظاهروا كثيراً واعتصموا كثيراً، وكتبوا وسمعوا وخطبوا وخُطِب عليهم، وعقدوا الندوات، وأسسوا المنظمات والتنظيمات وأقاموا المنتديات والملتقيات، ونشروا الصحف والأوراق بلا رقيب، ثم شاءت الظروف أن يلي الانفتاحَ في بلادنا العدوانُ الأميركي على العراق 1991، وهو الحدث الذي شكل على خطورته وبشاعته مناسبةً أردنية داخلية للوصول الى أكبر قدر من التلاقي بين موقف الحكم والشعب، وهو ما كان يفترض أن يؤسس فعلاً لإزالة الكثير من الحواجز النفسية التي تعاني منها السلطات في العلاقة مع شعوبها، وتشكل في العادة عائقاً أمام الثقة بالتحولات. في مجمل حياة الشعوب والمجتمعات، لا تعتبر مثل هذه التجارب أمراً يتكرر أو يحصل حسب الطلب والرغبة، وكان على طبقة سياسيين حصيفة أن تستغل مثل هذا المختبر الجماعي الاجتماعي العظيم لاتخاذ الخطوات اللاحقة مستندة الى إقبال الناس ونهمهم، أي - وبالعودة قليلاً للبعد الغذائي - أن تطبخ الطبخة السياسية المناسبة في الوقت السياسي المناسب. ولكن يبدو اليوم وبعد حوالي عقدين من الزمن على «التحولات» أن طبقة السياسيين في الحكومات لم تتمتع بالحصافة المطلوبة، مع التذكير هنا أن السياسيين لا يأخذون مواقفهم معتمدين على الحصافة فقط بل على المصالح بالدرجة الأولى. سؤال غريب.. جاوبوا عليه جرى آنذاك نقاش مصيري بالنسبة لكل من السلطة والشعب، ولكنه بالنسبة للأولى كان يجري من موقع الاقتدار والسيطرة، بينما بالنسبة للطرف الثاني ممثلاً آنذاك بالقوى الاجتماعية والشعبية، كان يجري من موقع الضعف والاستجابة. كان السؤال الأساسي حينها هو: هل نعتبر غياب الديمقراطية ومجمل ممارسات السلطات منذ نهاية الخمسينيات وحى نهاية الثمانينيات أمراً صحيحاً، وأن معارضيه كانوا هم المخطئون، أم أن السلطات كانت على خطأ؟ وهو سؤال كان يصاغ بوضوح أحياناً وبالمداراة أحياناً أخرى، ولم تكن الاجابة عنه مجرد إجراء شكلي أو فذلكة مثقفين أو رغبات سياسيين، بل إن نوع الاجابة هو الذي سيحدد إن كان الناس سيقبلون «بنفس» على ما سيقدم أمامهم على الطاولة، وهو في الواقع الذي حدد ذلك فعلاً. بالطبع كانت القوى الديمقراطية واليسارية والقومية والتنويرية هي المعنية بالدرجة الأولى بهذا السؤال، ولم يشعر الإسلاميون، وهم القوة الصاعدة حينها، بأهمية السؤال وخطورته لأسباب تتعلق، شكلياً على الأقل، بموقفهم خلال تلك السنوات التي يجري النقاش حولها، وهو الأمر الذي سيشكل فيما بعد، وبعد أن أصبحوا القوة الوحيدة الجدية في العمل السياسي في البلد، ميداناً للارتباك الكبير الذي ما تزال تعيشه الحركة الإسلامية بين حاجتها لتذكير الحكومة بوقوفها الى جانبها في زمن مضى، أي بلعبها دوراً معادياً للديمقراطية، وبين معارضتها الحالية التي تتحول، في كثير من الأحيان، عند فريق من الإسلاميين الى شكل من أشكال العتب! وتواثقوا على البر والتقوى كانت القوى القومية واليسارية في مرحلة الاندحار والتراجع في مشروعها الذي بنت عليه وجودها، وظنت أن استجابتها وتناولها لما هو مقدم على الطاولة قد ينقذها من المزيد من التراجع، فقبل الحزب الشيوعي مثلاً الذي صمد طيلة عقود بتنظيمه ونشاطه السريين، أن يعقد المؤتمر «الأول» ويعتبر مؤتمراته السابقة فلكلوراً حزبياً من الماضي، وأن يصدر العدد «الأول» من صحيفته باعتبار أن كل ما نشره في المجتمع خلال نصف قرن بلا قيمة في العهد الديمقراطي الجديد، أو هو يصلح فقط للتاريخ الداخلي وليس الوطني للحزب والبلد، وكذلك فعل البعثيون وغيروا اسم حزبهم وفتحوا صفحة جديدة، ورأى الديمقراطيون والمستنيرون أنه عفا الله عما مضى. وهكذا بدل أن تُسأل السلطة عن حصيلة عملها خلال الفترة التي تجري مراجعتها، قامت هذه الأخيرة بسؤال الشعب، وأدارت ميثاقاً فيما بينهم باعتبارها حكماً حكيماً، وقلة من الأصوات، قالت إن الميثاق المطلوب هو بين الشعب وبين الحكومة باعتبار أنها تسلطت فيما مضى على حق الشعب في الديمقراطية. ولما ترافقت هذه الأسئلة والإجابات المقدمة عنها مع ظروف سياسية كبرى (المفاوضات والاتفاقات وغيرها) فقد تراجعت لعدة سنوات الأهمية النسبية للشأن الداخلي (مع أن أمور الصراع مع الأعداء والتفاوض معهم هي أمور داخلية أيضاً)، الى أن عادت في آخر سنوات التسعينيات عندما اتخذ النقاش شكل صراع بين الإصلاح والمحافظة، وهما إصلاح ومحافظة غير ما هو معروض حالياً، فحينها مثلاً كانت حكومة عبدالكريم الكباريتي أو مواقفه ومواقف فريقه، تمثل الإصلاح بينما هي بمقاييس إصلاحيي اليوم محافظة جداً باعتبار أن مجرد الحديث عن الوطن ومصالحة من منظور وطني يعتبر اليوم محافظة بعد أن أصبحت الاستجابة لمتطلبات الخارج في الاقتصاد والنمو والسياسة والمجتمع هي المبدأ الرئيسي للإصلاح! ثقافة «البرزنتيشن» انخرط الناس والمجتمع في السنوات الأخيرة في ازدواجية كبيرة، إذ رأى أصحاب الطبعة الأخيرة من الاصلاح من الليبراليين الجدد أن المجتمعات تبنى بالنماذج المكتبية وعلى الورق ومن خلال نقاش أنيق نظيف، ويفضل أن يجري في خلوات بعيداً عن ضوضاء الشعب، وراحوا يستندون الى ما بنته دول أخرى من نماذج، وظنوا أن مجرد عقد جلسة نقاش حول قضية ما أن ذلك يعني حلها في الواقع، وكانت مظاهر ابتهاج المشاركين بنجاح النقاش تشبه ابتهاج من قدم فعلاً الحل. سادت ثقافة «البرزنتيشن»، وفي هذه الثقافة يكفي وبمواجهة أية قضية في أي شأن من الشؤون على المستوى الكلي أو الجزئي، أن تجهز «البرزنتيشن» المناسب.. وشكراً على كل حال لشركة مايكروسوفت التي وفرت أداة النمو والتطور الأنسب عبر تطويرها لبرامج العروض التقديمية «البرزنتيشن» التي تتيح قدراً من التنوع يناسب مختلف الأذواق التنموية. نحن في عصر الاستسهال: استسهال سن القوانين واستسهال الموقع العام واستسهال التجريب واعتبار تكلفته المادية والاجتماعية جزءاً من متطلبات النمو (ولم لا ما دام نمواً على الورق؟) وصار المنصب العام مجرد فرصة عمل ينتقل الواحد من أعلى المواقع الى فرصة عمل أخرى وسط استيعاب ومباركة الرؤساء والزملاء وربما حسدهم. بموازاة ذلك جرى العمل «بما يلزم» على صعيد المجتمع، إذ لا بأس من إشراك «الفعاليات» بما فيها «التقليدية» في لعب دور على مسرح التطوير والتحديث والنمو، وذلك على سبيل التنوع والتعددية. عروس وعريس! في بلادنا، يمارس الأطفال لعبة بريئة معروفة، تعرف بلعبة «عروس وعريس» يقومون فيها بالتمثيل اللازم ثم يتضاحكون، وبالنظر لما يجري على الصعيد السياسي والتنموي في بلادنا، هناك لعبة «حكومة وشعب»، مع فارق أن الأمر يجري هنا من دون اية براءة اطلاقاً. |
|
|||||||||||||