العدد 23 - ثقافي
 

السّجل - خاص

بعد انتهاء أحد عروض فيلم "حين ميسرة" اعتذر مخرج الفيلم خالد يوسف بصوته للذين شاهدوا الفيلم "لأنه لم يقدم الصورة الحقيقية لما يحدث الآن في مصر" وبخاصة في مناطق السكن الشعبية على حافة القاهرة التي تسمى بالعشوائيات.

وفي بداية عرض الفيلم قدّم المخرج بيانات سريعة على طول الشاشة تشير إلى مداخل موحية للموضوع الذي يعالجه ونقرأ الإحصائيات التالية:

خمسة عشر مليون مصري يعيشون في العشوائيات.

ثلاثون مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر.

إضافة إلى بعض عناوين الصحف المصرية ،التي تعكس، إلى حد ما، الأزمة المعيشية والاجتماعية والأمنية الكامنة في المجتمع وبخاصة في العشوائيات.

عمل المخرج خالد يوسف طويلاً مساعداً للمخرج يوسف شاهين، إذ عملا معاً في فيلم "هي فوضى" الذي ما زال يعرض في بعض دور السينما في عمان - يؤكد خالد يوسف أن ما رأيناه هو أقل قسوة من الواقع – أما لماذا لم نر الواقع كما هو، فلعل السبب أن هناك حدوداً لحرية التعبير سواء في مصر أو غيرها من الدول العربية، وهذا الفيلم رغم محاولات التلطيف أثار ضجة في مصر حيث طالب بعض المسؤولين بمنعه من العرض وربما جرى حذف لبعض المشاهد.

بعيداً عن هذه الملاحظات التي يمكن أن يستخدمها منتجو الفيلم للدعاية له، وهذا أمر يحدث أحياناً، فإن الفيلم قاس فعلاً، مثير للدهشة لمدى تدهور الأحوال المعيشية والاجتماعية، والأخلاقية للناس هذه الأيام، وبخاصة في المناطق العشوائية.

فعادل (شخصية رئيسية في الفيلم) يقول لناهد، الفتاة التي حملت منه: "من الآن وحتى موعد نزول اللي في بطنك فإذا تحسنت الأحوال فأنت زوجتي واللي في بطنك ابني ،وإلا فأنت لست زوجتي واللي في بطنك مش ابني" هكذا ببساطة.

ناهد (سمية الخشاب ) تترك طفلها في أحد الباصات بعض الوقت لترى أحدهم وتعود فلا تجد ابنها، حيث يعثر عليه سائق الباص الذي يبيعه لزوجين لم يخلفا بعد. الزوج يتحفظ، ولكن الزوجة تريد الطفل قائلة: "نأخذه وإذا جاءنا طفل غيره نبقى نتصرف". وفعلا يخلفون طفلاً ويبدأ الزوج بالضغط على زوجته التي تعلقت بالطفل، و لكنها مع ذلك ترسله إلى إحدى قريباتها، ولكنه يهرب ويلحق بأطفال الشوارع، وهذه ظاهرة أخرى يعالجها الفيلم.

هناك، إذاً، هذه العشوائيات التي تتسع يومياً، وهي تخلو من أية شروط سكن إنسانية - يسأل أحدهم : من أين يأتي ناس العشوائيات؟ فيأتيه الجواب - فقراء - ناس طردوا من بيوتهم، ناس جاءوا بعد الزلزال…الخ. والعشوائيات تشمل المقابر أيضاً التي استولى عليها سكان العشوائيات منذ أكثر من عقدين .. إذ إن بداية هذا الطوفان بدأت منذ ذلك الحين وربما قبل ذلك.

في قلب واحدة من هذه العشوائيات تعيش أم عامر (هالة فخري) في بيت مرتجل من ألواح التنك والكرتون، مع أطفال أربعة هم أبناء ابنها الأكبر (عامر) الذي سافر إلى العراق وانقطعت أخباره – يتضح في ما بعد أنه انضم إلى تنظيم القاعدة – أما الأطفال الأربعة فهم أبناؤه الذين (رمتهم) أمهم لأم عامر فور سفر عامر إلى العراق.

وسط هذا الطوفان من الفقر والفوضى وتدهور القيم ،تقف أم عامر سداً منيعاً أمام هذا الانهيار محاولة وقفه على الأقل وسط أسرتها الصغيرة.

أما عادل ابنها الثاني فيعمل ميكانيكياً لكنه لا يكاد يحصل لقمته ،وعندما يتورط مع إحدى عصابات الاتجار بالمخدرات الذين يهددونه بالقتل، فإنه ينتزع بالقوة إسوارتي أمه ليبيعهما من أجل سداد الدين فيما هي تتوسل إليه ألا يفعل، لأنها تحتفظ بهما من أجل شراء كفن لها عندنا يأتي الأجل، لكنه لا يتراجع طالباً منها أن تسامحه فتسامحه رغم فظاعة ما أقدم عليه.

أما زوجته ناهد فتبدأ رحلة الضياع بعد أن تتنكر لها حتى أمها متعرضة لشتى الانتهاكات والاعتداءات الجنسية لتنتهي غانية من طراز رفيع، حيث تصل إلى رجال أعمال يعقدون الصفقات بالملايين وحيث تحصل بدورها على عمولة مجزية.

هناك إذاً العشوائيات وعصابات المخدرات وأجهزة الأمن والحركات الأصولية، التي تجد مرتعا خصباً وسط هذا الطوفان من الفقر.

عادل يقف في اللقطة التي تتنازعه فيها جهات نافذة ثلاث:

عصابة المخدرات، وأجهزة الأمن التي تحاول أن تجعله مرشداً لها للجماعات الإسلامية والجماعة الإسلامية بقيادة أحد مسؤوليها (أحمد بدير).

عادل يحاول، ما أمكن، أن يظل على الحياد مع أنه يتعاون مع ضابط الشرطة في البداية ، وينتهي الأمر بمواجهة عسكرية كبيرة وسط الحي العشوائي بين أصوليين مدججين بالسلاح وبين قوات الأمن المركزي، في حين يعاني بسطاءالحي من هذا الصدام الدموي، حيث تهدم عششهم تحت زحف الجرافات إذ لم يجد الأمن" بداً "من إزالة البيوت لضمان السيطرة على الأصوليين.

ومرة أخرى يدفع الفقراء الثمن. عامر الابن الأكبر لا يعود من العراق . عادل يتلقى مبلغاً ضخماً من النقود المزيفة من أمير الجماعة الإسلامية . ناهد تنتقل من رجل إلى آخر ومن مقهى إلى آخر. وبدفع من "أم عامر" المعلم الوحيد للأصالة والحفاظ على الأخلاق، يشرع عادل في البحث مجدداً عن ناهد والطفل – ولكن بعد فوات الأوان.

يعكس هذا الفيلم الذي عرضنا خطوطه العريضة بسرعة للأزمة المتفاقمة الحادة في مصر هذه الأيام التي لخصها المفكر المصري د. جلال أمين بقوله: " الذين يرغبون في التغيير لا يستطيعون، والذين يستطيعون لا يريدون"

إنها الأزمة الطاحنة، أشار إليها يوسف شاهين وخالد يوسف في فيلم سابق "هي فوضى" والآن يستكملها، بقدر كبير من العمق والكشف الجارح، خالد يوسف.

“حين ميسرة” فيلم خالد يوسف:كشف جارح لواقع أكثر قسوة
 
24-Apr-2008
 
العدد 23