العدد 23 - بورتريه
 

خالد ابو الخير

للوهلة الأولى يأسرك بحرصه الشديد وانتقائه لكلماته، وكأنه يقرأ من كتاب شديد الوضوح، غير أن المؤشر الذي لا تخطئه العين وراء زجاج نظارته، هو نظرته التي يبرز منها الإصرار على الوصول إلى حيث شاء. تاركاً لمحاوره مساحة تضيق شيئاً فشيئاً دون كبير عناء.

يصفه مقرب منه بأنه «دبلوماسي بعمله وحياته، يحب أن يشتري أكثر من أن يبيع». ويضيف: «شغيل، يداوم قبل الموظفين، ويغادر في ساعة متأخرة، يتابع الأمور عن كثب».

ولد شاهر باك في عمان عام 1939، ويعد شارع وادي السير مرابع طفولته وصباه الباكرين، وتحديداً قرب بناية البريد والضريبة ومبنى القيادة العامة وحتى طلوع جبل عمان، حيث كان الإسفلت ينقطع، وتبدأ الشوارع الترابية صعوداً تجاه البساتين التي غابت الآن. أيامها كانت عمان قرية كبيرة حياتها بسيطة وأمانيها عذاب.

درس في المدرسة العبدلية وأنهى المرحلة الثانوية من كلية الحسين.

موقفه السياسي الأول تشكل في مقتبل سني المراهقة غداة نكبة فلسطين: «كان الجنود يمتطون صهوات آلياتهم العسكرية في طريقهم الى الجبهة حين خرجنا لوداعهم على ما صار دوار الداخلية، وجوههم مشرقة وأناشيدهم تهز أفئدتنا، وحلم النصر».

مشهد اللاجئين الذين أقيم لهم مخيم على عجل في شارع وادي السير، كان صورة مغايرة ومؤثرة الى أبعد حد.. ترك غصة يصعب تجاوزها وإحساس بالظلم دعاه للانتصار لهم. للإنسان.

سنوات الخمسينات الملتهبة بالقلق والاضطراب ما تزال ذاكرته تختزن الكثير منها:تطورات القضية الفلسطينية، والعدوان الثلاثي على مصر، وأحداث لبنان، وانقلاب العراق. ويعز عليه أن «المنطقة ما تزال تراوح في القلق والاضطراب حتى الآن».

وشهد الأردن أحداثاً مهمة آنذاك: تظاهرات حلف بغداد تتويج الملك الراحل الحسين، تظاهرات الفرح بتعريب الجيش العربي، نسف رئاسة الوزراء.وانتخابات 56 والقاء صناديق الأصوات في الشوارع،جمهرة من الأحزاب التي لم ينتم لأي منها، رغم أنه كان متابعاً لها وقارئاً جيداً للسياسة والتاريخ.

بعد انهائه التوجيهي انتقل الى دمشق دارساً الحقوق في جامعتها عام 1957، وفي السنة التي تلت هزه شعور قومي جارف بإقامة الوحدة بين سورية ومصر، التي لم تلبث أن انفكت عراها عام 1961، وهي سنة تخرجه من الجامعة.

بعد عودته الى الوطن عمل لفترة قصيرة محامياً متدرباً ثم التحق بوزارة العمل موظفاً، إلى أن تشكلت حكومة وصفي التل عام 1962 وأعلنت عن تغيير في نظام التعيينات الدبلوماسية، فقدم طلباً للالتحاق بوزارة الخارجية.

أول تعيين له كدبلوماسي كان في بغداد مطلع نيسان 1963، وبعدها كرت السبحة، فتنقل بين العديد من العواصم العربية والأجنبية، كان آخرها أول سفير عربي في جنوب إفريقيا عام 1994.

يذكر لدى لقائه بـ"نيلسون مانديلا" كيف أن الرجل ذكره بلقاء له مع الملك الحسين، إبان مرحلة النضال ضد الأبارتهايد مطلع الستينات في الجزائر، وكيف تأثر بالملك الراحل الذي أيد حق شعبه في النضال ضد التمييز العنصري. وتعجب من أن الرئيس الإفريقي ما يزال يذكر تفاصيل اللقاء على الرغم من مرور عقود عليه، أمضى معظمها كسجين سياسي. ومرة أخرى، يشرح كيف اتفق السفراء العرب وكان عميدهم، على تقديم صينية فضية على سبيل الهدية الى مانديلا، اقترح أن تنقش عليها أبيات شعر "أبي القاسم الشابي" الشهيرة:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر

كان باك يتصور أنه آن له أن يستريح بعيد تركه للخارجية في العام 1999،وقد أمضى فيها 40 سنة خدمة، إلا أن علي أبو الراغب الذي كان يعرفه قبلاً اقترح عليه أن يشترك في حكومته وزير دولة للشؤون الخارجية مرتين.

حين لاح التقاعد مجدداً بعد استقالة الحكومة، اتصل به رئيس هيئة أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان أحمد عبيدات عارضاً عليه أن يشغل منصب المفوض العام للمركز. دار يومها حوار بينهما أكد فيه باك "حرصه على متابعة موضوع حقوق الإنسان من زاوية دراسية نظراً لتأثيره الكبير على العلاقات بين الدول، واستخدامه من الدول الكبرى كعنصر لصالحها"، مؤكداً قناعته بأن "تحصين الدول من التدخل الخارجي يأتي عن طريق تحسين وضع حقوق الإنسان". برز المجلس في عهد باك، وأصدر تقارير اتسمت بالحيدة والموضوعية، ما طرح السؤال حول كيف أن رجلاً خرج من رحم العمل الحكومي، يخرج من جلبابه، ولا يجد غضاضة في الوقوف في الجانب الآخر. غير أن باك يجادل بأن المركز جزء من الدولة، مثله مثل المؤسسات الأخرى، ويقوم بعمله بكل أمانة، لتعزيز مكانة حقوق الإنسان التي تحتاج الى جهد كبير ومستمر ونشر التثقيف والوعي.

وتعرضت تقارير المركز أثناء الانتخابات الماضية إلى بعض الانتقادات، غير أن باك أصر على أن "مراقبة المركز للانتخابات لا تعني التشكيك بنزاهتها .مبدياً تمسكه بقدرة مؤسسات المجتمع المدني على مراقبة سير العملية الانتخابية".

"أبدى باك صبراً طويلاً في الانتخابات النيابية مع الحكومة لدرجة أننا بدأنا بالتململ، وفكرنا بتقديم توصية لوقف مراقبة الانتخابات، لكنه أصر على المراقبة، وبقي يلاحق الحكومة حتى حصل على الموافقة" يشرح موظف عمل معه في المركز قائلاً "إن التقرير الذي صدر اتسم بالحرفية العالية بغض النظر عن رأي بعض الجهات فيه" .

على أن شخصية سياسية زاملته في الحكومة تراه" هادئاً جداً، لا يتكلم إلا بصعوبة، لكنه إذا تكلم لا ينطق إلا بالخير والكلام الموزون. وطني، مؤدب، نظيف وفاضل، الا أن نشاطه محدود".

وتجادل الشخصية ذاتها بأن "تقارير المركز تتسم بالضعف، وتنأى عن القضايا الحساسة، في حين أن المطلوب من المركز أن يكون قوياً ويدافع عن المواطن".

يقر باك بأن استجابة بعض الوزارات والمؤسسات لدور المركز ليست واحدة، لكنه يؤكد أن هناك تفهماً كبيراً لهذا الدور، والعمل ينصب على تطوير تربية حقوق الإنسان في المدارس، وتدريب عدد كبير من موظفي أجهزة الدولة على الالتزامات الواقعة على الحكومة الأردنية بهذا الخصوص، فضلاً عن استمرار التوعية وتشجيع النقاش حوله بما ينعكس ايجاباً على المجتمع.

أما حلمه الكبير فهو: "أن يرى الأردن محصناً، وفي مكانة ممتازة بالنسبة لحقوق الإنسان، يشاد به في المحافل الدولية وشعبه يعيش بأمان واستقرار محدثاً تنمية ديمقراطية سليمة".

"يتميز بعلاقات متشعبة مع الجهات كافة، لكنه يرفض الشللية، ليس من الذين ينصرون الحكومات ظالمة أو مظلومة، ليبرالي، يؤمن بتعزيز الديمقراطية ولديه آفاق للإصلاح في كل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويرفض فكرة تسييس الدين". يصفه مقرب آخر.

بعد أيام ينتهي عمل باك كمفوض للمركز بعد تقديم استقالته لانتهاء عقده، مؤملاً نفسه بالانشغال ببعض الأمور الخاصة مع عائلته المكونة من زوجته وابنته الوحيدة مريم، والاستزادة من القراءة، وممارسة رياضة المشي التي اعتادها منذ كان طالباً، ونمت عنده التفكير والتأمل، حتى اعتبر نفسه كائناً متحركاً، دون أن يخطر له على بال أنه صار من الصعب عليه أن يتقاعد وينفض يديه من "إشراق" مدرسة المشائين التي اختطها أرسطو، وما زال تلاميذه يتحركون.

شاهر باك: الهادىء الدينامي ينتصر للدولة والإنسان
 
24-Apr-2008
 
العدد 23