العدد 22 - كتاب
 

لماذا تبدو الديمقراطيات الناشئة في العديد من دول العالم الثالث أقل جاذبية واحيانا أقل إقناعاً من الديمقراطيات العريقة في الدول المتقدمة؟.

هناك أكثر من سبب ، أولها حداثة التجربة في هذه الدول والمجتمعات ، والرواسب الباقية لعهود سابقة تميزت بالصوت الواحد وسطوة السلطة ، وهناك التركيب الاجتماعي التقليدي الذي يطمس كينونة الفرد الحر ، لصالح تشكيلات وتراتبيات متوارثة لا محل فيها لرأي آخر ولاستقلالية فردية .

الى ما تقدم فخبرة التحولات الديمقراطية النسبية في العقدين الماضيين وفي غير دولة من دول العالم ، تفيد ان هذه التجربة تكاد تختزل في إجراء الانتخابات النيابية . يتم ذلك دون ايلاء التغيير الثقافي والاجتماعي أية اهمية .ولذلك فإن نمط الحياة السياسي الجديد نسبيا لا يمس البنى الاجتماعية والثقافية . تبعا لذلك لا يطرأ تحول يذكر على نوعية الحياة، وما يسودها من مفاهيم ومواضعات وحراك. من أمثلة ذلك : النظرة الى الآخر. الى المختلف في الدين والطائفة والعرق والجنس والسن وإلى الغريب والأجنبي. هذه النظرة هي ما يميز الديمقراطيات المستقرة وما يسم التمدن . حيث تتجلى الفروق بين الناس في خصائصهم الشخصية، وليس في انتسابهم لطائفة ودين وعائلة وعرق وجنس .

تتنافى الديمقراطية في جوهرها مع هذه التصنيفات الأولية السابقة على نشوء وازدهار المدن ، والعائدة الى نمط حياة ريفي أو قبلي. فاستقلالية الفرد الحر الذي يقترع بصورة سرية وبملء ارادته في الانتخابات ، هذه الاستقلالية هي إحدى أفضل ثمار الديمقراطية التي ينعم بها الفرد والجماعات على السواء، وهي الأقرب الى فطرة الكائن البشري، الذي يتآخى مع سواه بصرف النظر عن الفروق المسبقة والخصائص الأولية. وإلى مبادىء الشرائع والإرث الإنساني الذي يزكي المساواة بين البشر.

كي تزدهر الديمقراطية في بلادنا وفي سائر الديار العربية ، فإنه لا بد من الاحتكام لذخيرة فكرية ترسي قيم الاعتراف بالآخر فيعترف الرجل بالمرأة والكبير بالصغير وأتباع طوائف وأديان بغيرهم . وهو ما لمسه وتشرب به من اقاموا ردحا من الزمن في الغرب ( كاتب هذه السطور ليس منهم ) والذين أذهلهم أن البشر يختلطون ويعترفون بأهلية بعضهم بعضاً دون التفات لفروق أولية بينهم .وأن الاعتراف بالآخر والاحتكام الى قانون واحد ،هو أول الديمقراطية وجوهر التمدن وشرط الرقي الإنساني.

في القناعة أن الإعلاء من شان الفروق في مرحلة التحول الديمقراطي ، هو من قبيل الثأر من الديمقراطية ومحاولة تجويفها وإفراغها من كل معنى وقيمة، بل استخدامها اداة لتعظيم العصبيات وتعزيز نمط الحياة التقليدي، ورد المجتمع الى الوراءالى ما قبل بناء المدن والإقامة فيها. فيمتد الثأر من الديمقراطية الى الثأر من المدن والقيم المدنية ، ولكن دون التنازل عن التنعم بمزايا الحياة في المدن. نحتاج الى ديمقراطيين متنورين مفعمين بقيم مدنية تنتصر للإنسـان وتنشر في المجتمع ثقافة العدل والمساواة والاعتراف بالآخر كي ترفل مجتمعاتنا بالتنوع والتعدد الذي كان يسم حياتنا قبل عقود طويلة وقبل الرطانة بالديمقراطية .

محمود الريماوي: المدنية صنو الديمقراطية والوجه الملازم لها
 
17-Apr-2008
 
العدد 22