العدد 21 - دولي | ||||||||||||||
صلاح حزين
لم تخطئ الصحف الأوروبية والأميركية كثيراً حين وصفت مؤتمر قمة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي عقدت في العاصمة الرومانية بوخارست أخيرا، بأنها أهم قمة يعقدها الحلف خلال سنوات وجوده التسع والخمسين. فقد عقد الحلف الذي أنشئ عام 1949 ليكون درع أوروبا الغربية ضد الخطر الشيوعي، في إحدى الدول الشيوعية سابقاً. كان "الخطر الشيوعي" يتمركز في الاتحاد السوفييتي، ويهيمن على أوروبا الشرقية آنذاك، وقد جاء انعقاد المؤتمر في إحدى دول أوروبا الشرقية التي كانت حليفاً قوياً للخصم الشيوعي، ليعطي معنى رمزياً لانتصار حلف الناتو على خصومه الألداء الذين كانوا تكتلوا منذ العام 1955 في حلف مضاد هو حلف وارسو بعد صراع دام أربعين عاما. وزاد من رمزية هذا الانتصار أن الحلف وافق على ضم كل من ألبانيا وكرواتيا، وهما دولتان شيوعيتان سابقتان، رسمياً للحلف ليصبح عدد الدول المنضوية في إطاره 28 دولة. كما عمق مشاعر انتصار الناتو أن رئاسته دعت فلاديمير بوتين، رئيس الدولة التي ورثت الاتحاد السوفييتي، لإلقاء كلمة في مؤتمر الحلف، وهو ما يمثل أكبر معاني الانتصار للحلف الذي سيحتفل في العام المقبل بذكرى تأسيسه الستين. ولأن كل هذه المعاني قيلت جهراً أو سراً في المؤتمر العشرين للحلف، فإن زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش لمنتجع صوتشي، حيث استقبله الرئيس الروسي عقب انتهاء قمة الناتو، لم تضف جديداً، بل كان ما جاء فيها تنويعا على ما تم في بوخارست، سوى أن الرئيسين اللذين اختتما آخر قمة لهما، تبادلا نوعا من المجاملات التي تدخل في باب العلاقات العامة، والتي انتهى مفعولها بعد انفضاض آخر قمة تجمعهما معا. غير أن أهمية القمة، لا تكمن في مشاعر الانتصار ومعانيه الرمزية العديدة فقط، بل وفي مظاهر الاختلاف التي برزت بين أعضائه؛ من الاختلافات المعلنة حول العراق والتي كانت حاضرة هناك في صورة أو أخرى، ليس من خلال وضع العراق على جدول أعمال القمة، بل من خلال الانقسامات التي ظهرت حيال قضايا أخرى كانت على جدول الأعمال وأعادت إلى الأذهان الخلافات التي ظهرت حين قرر الرئيس الأميركي غزو العراق، فتصدى له محور باريس برلين الذي كان يقتسم زعامته آنذاك الرئيسان الفرنسي جاك شيراك، والألماني غيرهارد شرويدر. في قمة الناتو الأخيرة، عارض عدد من أعضاء الحلف الذين تحلقوا حول محور باريس برلين، بقيادته الجديدة المؤلفة من نيكولا ساركوزي وأنغيلا ميركل، ضم كل من أوكرانيا وجورجيا على الفور، مثلما كانت رغبة بوش، واقترحوا وضع اسمي الدولتين على قائمة الانتظار، وذلك رغبة منهما بعدم استفزاز روسيا، أكثر مما حدث حتى الآن، خاصة وأن روسيا أحنت رأسها لأكثر من عاصفة، كان آخرها عدم اللجوء إلى أي إجراء رداً على اعتراف الدول الغربية، وكلها أعضاء في الحلف، باستقلال كوسوفو. نقطة اختلاف أخرى، برزت حين اضطر الرئيس الأميركي إلى عدم الإعلان عن ضم مقدونيا إلى الحلف مثلما كان مقرراً، وذلك تحت ضغط اليونان التي تخشى على ذلك القسم من مقدونيا الذي يقع تحت سيطرتها من تأثيرات مثل تلك الخطوة. كما برزت اختلافات أخرى حول الدرع الصاروخي الذي تنوي أميركا في إطاره أن تنشر صواريخ ومنظومات مراقبة متطورة في جمهوريتي تشخيا وبولندا القريبتين من روسيا، وهما اللتان كانتا عضوين في حلف شمال الأطلسي. ولا يقلل من أثر هذه الاختلافات أنها كانت في التفاصيل وليس في المبدأ. إن بروز هذه الاختلافات في مؤتمر بوخارست يأخذ مداه الأوسع من حقيقة أنها تأتي في وقت أعيد فيه طرح دور الحلف في ظل ظروف جديدة تماما عن تلك التي أنشئ فيها. فقد أنشيء الحلف قبل تسعة وأربعين عاماً "لكي تبقى أميركا (في أوروبا)، وتبقى ألمانيا ضعيفة وتبقى روسيا خارجها"، بحسب تعبير السياسي البريطاني المحافظ حوليان أميري. لكن ذلك كان في ظروف أخرى كانت فيها الحرب الباردة قد بدأت وكانت ألمانيا مقسمة وكانت روسيا شيوعية وقوة عسكرية منافسة. غير أن ذلك كله انتهى بانتصار دول الحلف على خصمها اللدود الذي تفكك وانهار، وانهار معه معسكره الاشتراكي، وقبل مرور عقدين على انهياره بدأت الدول التي كانت أعضاء في حلف وارسو سابقا، تدخل في حلف الناتو أفواجا. ولكن الولايات المتحدة، بدلا من أن تبحث عن دور جديد للحلف استمرت في سياسة شبيهة بسياسة الحرب الباردة إن لم تكن استمرارا لها، ضد خصم لم يعد خصما، كما شهدت بذلك كلمات المجاملة التي تبادلها كل من الرئيسين الأميركي ومضيفه الروسي في قمتهما الخاصة، وما إصرارها على إقامة الدرع الصاروخي إلا مثال صارخ على ذلك، بحيث تصبح كلمات التطمين الأميركية لروسيا بأن الدرع ليس موجها ضدها، بل ضد إيران، نكتة لا تضحك أحدا، بمن في ذلك الرئيس الروسي الذي يعتبر نصب منظومة الصواريخ على مقربة من حدود بلاده تهديدا لأمنها، ويدعو بدلا من ذلك إلى التعاون المشترك في مجال الدفاع، كما يدعو إلى سياسة أكثر هدوءا تجاهها، وهي دعوات تلقى تأييدا من بعض دول الحلف، مثل ألمانيا التي تقيم علاقات اقتصادية وثيقة مع طهران. لم تكن دول حلف شمال الأطلسي من دون خلافات فيما بينها في السابق، فقد كانت مثل هذه الخلافات موجودة على الدوام، ولكن ذلك كان أيام الحرب الباردة، فهل تكون الخلافات التي برزت في قمة بوخارست بداية لرسم دور جديد للحلف يتناسب والظروف الجديدة؟ |
|
|||||||||||||