العدد 21 - اقتصادي
 

مازن مرجي

نعيش هذه الأيام حالة غلاء غير مسبوقة وخللاً واضحاً في توازن آليات السوق نسميها «انفلات» شبه تام للأسعار بعيداً عن إطار العرض والطلب، ويرتكز إلى التمادي باستغلال الفرص الذهبية.

محلياً، عزّز هذا الواقع، بصورة مباشرة، قرارات الحكومة برفع أسعار المحروقات، بنسب عالية سبقها رفع الدعم جزئياً عن الأعلاف والقمح.

بدأنا نلمس يومياً تداعيات هذه القرارات الحكومية بصورة موجات غلاء متتالية غير منطقية أو مبررة طالت السلع والخدمات كافة بلا استثناء.

إجراءات الحكومة لدعم قدرات المواطن في مواجهة ارتفاعات الأسعار ظلّت محدودة الفعّالية، وتستهدف حصراً التخفيف من آثار قراراتها، كما أنها لا تشمل الجميع.

المواطن يقف وحيداً مشدوهاً وعاجزاً أمام تسارع وتتالي الضربات النازلة عليه فأصبح ظهره مكشوفا دون غطاء حكومي حقيقي يحميه بمواجهة متطلبات الحياة بعد أن تآكل دخله.

الحكومة تتملص وتدير ظهرها متخلّية عن دورها في ضبط الأسواق، منع الاحتكار، والحد من جشع التجار، وكأن الأمر لا يعنيها بعد نجاحها في تمرير قراراتها القاسية دون أي مواجهة تذكر، نيابياً، نقابياً أو إعلامياً أو على صعيد حركة المواطنين أنفسهم.

الأردن، ليس وحيداً في هذه المعضلة، بل تشترك معه دول عربية كثيرة بما فيها دول نفطية. لكن معاناتنا ربما هي الأكثر عمقاً والأشد إيلاماً قياساً مع الآخرين.

كيف وصلنا إلى هنا؟

- الارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط عالميا إذ وصل سعر البرميل إلى 111 دولاراً أخيراً بعد صعود من 28 دولاراً عام 2000 وحوالي 50 دولاراً عام 2006.

- تواصل تدهور قيمة الدولار الأميركي مقابل اليورو والعملات الصعبة الأخرى.

- تضاعف أسعار المعادن الأساسية مثل: الحديد، والذهب.

- تضاعف أسعار الحبوب والقمح، وارتفاع كبير بأسعار الأعلاف.

- العولمة تلغي القرار الاقتصادي الوطني وتستبدله بوصفات دولية موحدة.

- تخلي الحكومات شبه التام عن أنواع الدعم كافة لمواطنيها.

- تخلي الحكومات عبر الخصخصة عن دورها في الإنتاج وتقديم الخدمات.

- عجز الخطط الاقتصادية عن خلق نمو شامل يستفيد منه الجميع وانحسار الفائدة بفئات قليلة.

- فشل كبير في برامج الحكومة وخططها في محاربة معضلتي الفقر والبطالة اللتين ظلتا تراوحان مكانيهما، ما أبقى على شرائح واسعة من المواطنين في أوضاع هشة أضعفت قدراتهم على تحمل موجات الغلاء الأخيرة فتعمقت المشكلات.

- سيطرة الشركات العالمية الكبرى على النشاط الاقتصادي العالمي وتحكمها بخيوطه كافة ما اخرج الشركات والمشاريع الوطنية المتوسطة والصغيرة من اللعبة، وأضعف قدرتها على التنافس، فقلت هوامش أرباحها وتضاءلت فرص استدامتها.

- غياب الديمقراطية والشفافية، وانتشار الفساد يؤدي لتركيز الثروات، وحصر صناعة القرار بأيدي قلة قليلة دون سواها.

- التطور والتغير في الأنماط الاستهلاكية التي نعيشها من أنماط بسيطة إلى أنماط أكثر تطلباً وكلفة.

- غياب أو ضعف المؤسسات الأهلية المعنية بحماية المستهلك من حيث الأطر القانونية والتنظيمية.

لماذا ارتفع سعر النفط هكذا؟

• ازدياد الطلب العالمي على النفط لا سيما من قبل كل من الصين والهند واللتين تحققان نسب نمو عالية 9-11 بالمئة سنوياً.

• ارتفاع تكلفة الإنتاج التي تجعل من المستحيل، بحسب الدول المنتجة العودة لسعر يقل عن60 دولاراً للبرميل.

• الانخفاض الحاد في قيمة الدولار العملة المستخدمة في تسعير النفط، وارتباط غالبية العملات الوطنية للدول المصدرة للنفط بالدولار.

• سيطرة عدد محدود من شركات النفط الكبرى، وأغلبها أميركية، على أسواق النفط العالمية، وتحقيق عوائد وأرباح خيالية، ففي عام 2003 حققت شركة بي البريطانية 233 مليار دولار عائدات وأكسون موبيل الأميركية 223 مليار ورويال دتش وشل البريطانية الهولندية 202 مليار دولار بينما كانت عوائد السعودية اكبر منتج للنفط في العالم للسنة نفسها لا تتجاوز 86 مليار دولار فقط.

• لقد حققت شركة اكسون موبيل العملاقة 40,6 مليار دولار أرباحاً صافية من أصل عوائدها البالغة 404 مليار دولار عام 2007 إذ وصل سعر برميل النفط 100 دولار، وهذه العوائد تضاهي وتزيد على مجموع الدخل القومي لـ 120 دولة في العالم، أما عام 2006 فقد حققت الشركة مبلغ 39.5 مليار دولار أرباحاً صافية من حجم عائداتها البالغ 337.6 مليار دولار وكان أعلى سعر سجله برميل النفط بهذا العام هو 77 دولاراً، أما عام 2005 فحققت أرباحاً صافية قيمتها 36.1 مليار دولار.

• السيطرة الأميركية المباشرة على منابع النفط نتيجة حربي الخليج الأولى والثانية، وهي مستفيدة من ارتفاع الأسعار عبر فرض عقود بمئات المليارات على الدول المعنية، وذلك ثمن إعادة إعمار ما دمرته آلات حربها.

• تفرض حكومات الدول المستهلكة، ومنها الأردن، ضرائب عالية تصل في بعض هذه الدول إلى 80 بالمئة.

• ازدياد عمليات التخزين الاستراتيجي للنفط في الدولة المستهلكة لا سيما أميركا التي تعمل على امتصاص أي زيادة في إنتاج الدول المصدرة وتمنعها من خفض الأسعار.

• تساهم المضاربات المحمومة على النفط بشكل كبير، في رفع الأسعار وبصورة غير مبررة.

• عجز أو تراخي الدول المستهلكة الكبرى عن التوصل إلى بدائل اقتصادية جدية للنفط أبقى اقتصاديات العالم متعلقة به بصورة متزايدة.

• تعاني كثير من الدول المستهلكة للنفط بما فيها الصناعية الكبرى والدول المصدرة من نقص في المشتقات النفطية ناتج عن قصور وعدم كفاية مصافي التكرير، وعدم قدرتها على توفير حاجات أسواقها المحلية والعالمية من هذه المشتقات.

إلى أين؟

• عالمياً، نلحظ تباطؤاً في النمو الاقتصادي، ودخول اقتصاديات كبرى في ركود اقتصادي بدأت تتبدى ملامحه الأولية في الولايات المتحدة الأميركية بخاصة بعد أزمة التمويل العقاري الأخيرة واستمرار انخفاض قيمة الدولار إلى مستويات قد يصعب استيعابها لفترة أطول.

• إطالة أمد الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، وازدياد التدخلات الدولية المباشرة في بؤر التوتر الكثيرة وذلك بهدف ضمان مصالح الدول الكبرى، وإبقاء أوضاعها الداخلية أكثر استقراراً.

• في حال عدم دخول الولايات المتحدة في كساد عميق ونجاتها من انهيار مالي واقتصادي كبير ومع بقاء الجمهوريون في الحكم يتوقع أن تستمر اللعبة الأميركية بدولارها المنخفض الذي يشجع صادراتها والسياحة إليها ونفط مرتفع الأسعار تجني هي وشركاتها عوائده على حساب مصدري النفط والدولة الصناعية وأهمها الصين ودول الاتحاد الأوروبي" المتضرر الأكبر".

• محلياً، سيقود الارتفاع المتوالي للأسعار إلى كساد يشمل معظم القطاعات وعلى رأسها العقار والتجارة نتيجة الارتفاعات الخيالية في الأسعار، والتراجع الحاد في القدرات الشرائية، وقد بدأنا فعلاً بمشاهدة مظاهر هذا الكساد بعد أن بدأت آثار التضخم تأخذ مداها الحقيقي.

• استمرار تراجع الصادرات الأردنية بسبب ضعف تنافسيتها في ظل تزايد كلف الإنتاج والشحن والتسويق واستمرار تراجع قيمة الدولار وتزايد العجز في الميزان التجاري بسبب زيادة حجم الواردات وكلفتها.

• رغم تضاعف مبيعات المؤسسات الاستهلاكية على حساب قطاع التجار الصغار ومتوسطي الحجم، إلا أن تغييرات كبيرة وارتفاعات ملموسة ستطرأ على المؤسستين الاستهلاكيتين، وأسعارهما مع بداية العام القادم مما سيعيق من قدرتهما على تخفيف وطأة الغلاء على المواطنين.

• تراجع مستوى المعيشة، بصورة واسعة نتيجة تآكل الدخول، وانزلاق الكثيرين تحت خط الفقر، مما سيضيـــف أعباء اقتصادية، سياسيـة، واجتماعية جديدة على الدولة تستنزف طاقاتها وتبرز ضعفها بوضوح.

• اتساع نسب الفقر والبطالة وتعمق الآثار الاجتماعية السلبية مما يزيد من انتشار الجريمة على أنواعها، وتفشي الانحلال الخلقي والاعتداء على ممتلكات الآخرين وحقوقهم مما يزيد من التحديات التي على المواطن والدولة مواجهتها. ويسهم كل هذا في زعزعة السلم الأهلي والاستقرار الاقتصادي.

• استمرار تفتت الملكية الزراعية، وتسرب أجود الأراضي من أيدي أصحابها سعياً وراء تأمين مصادر دخل إضافية لمواجهة التزايد في متطلبات الحياة وتحت شعار التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الضخمة، وهي بالحقيقة عبارة عن سمسرة أراضٍ ومضاربات لا أكثر يتولد عنها الوهم بالتنمية.

• تراجع مستوى الرفاهية التي كانت متوافرة للكثيرين، والاضطرار للعودة لوسائل الحياة البدائية من ناحية السكن، الغذاء، الكساء، التدفئة والنقل مما يشكل صدمة اجتماعية، وتراجعاً حضارياً سيصعب على الكثيرين التعامل معه وقبوله.

انفلات شبه تام للأسعار
 
10-Apr-2008
 
العدد 21