العدد 21 - ثقافي | ||||||||||||||
صلاح حزين في أعقاب حرب الخليج الأولى في العام 1991، وجد العراقيون أنفسهم قادرين على مغادرة بلادهم في صورة شرعية، بعد سنوات من المنع من السفر الذي كان مفروضا عليهم. ولكن ظروف الهزيمة العسكرية التي كان يعيشها العراق آنذاك، جعلت هذه المغادرة محددة في اتجاه واحد هو اتجاه الحدود الأردنية التي استثنيت من الحصار الدولي الذي كان فرض على العراق عقابا له على غزوه الكويت في العام السابق، والذي كان السبب في الحرب التي شنها تحالف دولي على العراق وانتهت بهزيمة كارثية، فتحولت الحدود الأردنية إلى ممر إجباري للخارجين من العراق. تدفق آلاف العراقيون على الأردن، بعضهم أقام فيه، وبعضهم اتخذه محطة ينطلق بعدها إلى بلاد الله الواسعة هربا من أوضاع العراق التي فاقمها قرار الحظر الدولي. وكان بين هؤلاء أكاديميون وفنانون وأدباء ومثقفون وكتاب وصحفيون ومترجمون. معظم هؤلاء غادروا الأردن فيما بعد، وبقي عدد قليل منهم إلى الآن، قبل أن ينضم إليهم عدد من المثقفين الذين كانوا مرتبطين بالنظام السابق، والذين غادروا العراق هربا من تطورات ما بعد الاحتلال، مشكلين تنويعا على المشهد الثقافي العراقي المغترب، والذي أصبح يتكون من المثقفين المعارضين للنظام العراقي السابق الذين غادروا العراق في أواخر السبعينيات بعد اشتداد وطأة النظام الذي كان قد تسلمه الرئيس العراقي السابق صدام حسين، والذي دشن بداية حكمه بحملة قمع طالت الأكراد والشيوعيين وأعضاء حزب الدعوة في صورة خاصة، وكان نصيب الأردن من هؤلاء قليل، إذ غادر معظمهم إلى سوريا ولبنان والكويت. بعد العام 1991 جاء المثقفون الهاربون من الأوضاع الجديدة التي باتت لا تحتمل، وكان بعض هؤلاء من المعارضين الذين أحنوا رأسهم للعاصفة السبعينية ولاذوا بصمت بليغ ثمنا لبقائهم الذي استمر أكثر من عقد، وبعضهم آثر الابتعاد عن السياسة في بلد أصبحت السياسة تعني فيه الإعدام والسجن . بعض آخر كان مستقلا وجد نفسه يقع ضحية تطورات سياسية كان حريصا على عدم الاهتمام بها. وهكذا شهد الأردن قدوم المعارضين المعلنين والمعارضين الصامتين والمستقلين، وأخيرا المؤيدين للنظام السابق، واستقرارهم لمدد متفاوتة في بلد صغير اسمه الأردن. أحضر هؤلاء المثقفون معهم زخما ثقافيا وفنيا كان أكبر من أن يستوعبه بلد صغير مثل الأردن، فقد كان هناك فنانون كبار في مضمار الفن التشكيلي، مثل رافع الناصري و شاكر حسن آل سعيد ومحمد مهر الدين الذي بقي ضيفا دائما على الأردن قبل أن يقيم في عمان. وكان هناك رسامو كاريكاتير مثل خضير الحميدي ومؤيد نعمة وكفاح آل سعيد، ومسرحيون كبار مثل عوني كرومي وجواد الأسدي، ونقاد مثل طراد الكبيسي وياسين النصير والراحل محمد مبارك، ومبدعون كثر مثل بتول الخضيري وعبد الستار ناصر وعلي بدر، ومعماريون مثل خالد السلطاني، فضلا عن أعداد كبيرة من الصحفيين والكتاب والأكاديميين والمترجمين. وقد شكل الشعراء حالة خاصة، فهنالك قول شائع يرى أن في العراق شعراء بقدر ما فيه من نخيل. وإن كان من الصعب أن يتذكر المرء أعداد الشعراء الذين مروا بالأردن أو أقاموا فيها، فيكفي القول إنه في وقت واحد أقام في عمان ثلاثة من أكبر شعراء العراق والعالم العربي هم: سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر. وفضلا عن هؤلاء وأولئك، كانت عمان معبرا لأعداد كبيرة من المثقفين والمبدعين إلى بلدان عربية وأوروبية أخرى، ونقطة التقاء أعداد كبيرة منهم بأصدقائهم ومعارفهم وأقاربهم، ومحطة انتظار للذي يأتي ولا يأتي. خلال وجودهم الكثيف، وخاصة في التسعينيات، اتخذ هؤلاء لأنفسهم أماكن للقاء؛ في مقاه مثل "مقهى العاصمة" الذي هدم بعد موجة من الاحتجاج الصامت الذي شارك بعضهم فيه، و"مقهى السنترال" الذي ما زال عنوانا للمثقفين العراقيين ومكانا لمن بقي منهم في عمان. وقبل ذلك كان "مقهى الفينيق" مكان اللقاء المفضل للشاعر عبد الوهاب البياتي بضيوفه وزواره الكثيرين. وتكونت لديهم منتديات ومعارض غاليريات لعرض منجزات الفن التشكيلي مثل غاليري الأورفلي، الذي استقطب وما زال معارض فنية كبيرة لفنانين بارزين. وبسبب التاريخ الزاخر للفن التشكيلي العراقي، كانت معارض الفن التشكيلي هي النشاط الأبرز للفنانين العراقيين الذين تواجدوا على الأرض الأردنية. في بداية التسعينيات، وهي فترة انتعاشة قصيرة للمسرح الأردني، شهدت الساحة الثقافية تجارب مسرحية ساهم فيها مسرحيون عراقيون كبار، وخاصة جواد الأسدي. كما اغتنت الصحافة الأردنية والثقافية منها في صورة خاصة، بأقلام صحفيين، وقصائد لشعراء وكتاب قصة وفصول من روايات كتبها هؤلاء المثقفون الذين استقروا يوماً في عاصمة متعطشة للثقافة، ولكن معظم هؤلاء رحلوا من دون أن يتركوا أثرا في الثقافة الأردنية يتناسب وكثافة تواجدهم على ساحتها. |
|
|||||||||||||