العدد 21 - ثقافي
 

هيا صالح

ما بين مبادرة وزير الثقافة الأسبق د.خالد الكركي في إنشائها مطلع التسعينيات، مروراً بقرار إغلاقها في عهد الوزير حيدر محمود، إلى المبادرة بإعادة إحيائها بتوصية من المؤتمر الثقافي الوطني الأول، وبمتابعة من قبل وزير الثقافة السابق د.عادل الطويسي.. ظلت شمعة مديريات الثقافة في المحافظات ما بين توهج وخفوت، وما بين طموح مفتوح الآفاق في تطوير الحراك الثقافي المجتمعي، وواقع فيه ما فيه من الإجراءات البيروقراطية والقرارات الارتجالية والارتباكات.

ففي خضم الاحتفال باختيار عمّان عاصمة للثقافة العربية في العام 2002، فوجئت الأوساط الثقافية بقرار إلغاء مديريات الثقافة في المحافظات، لأسباب ومبررات بدت لبعضهم "غير ثقافية" كما يرى د.محمد مقدادي. ومنها مثلاً عجز هذه المديريات عن تحقيق رسالة الثقافة الوطنية، وتكديس موظفين ليس لديهم خبرة في العمل الثقافي، والترهل الإداري، والميزانية المتواضعة لوزارة الثقافة.. وغيرها من الأسباب التي حالت دون أن تؤتي بعض هذه المديريات العشر أُكُلَها.

هذه الأسباب، وفقاً لمقدادي "حق أريد به الباطل بعينه"، لافتاً إلى أنه إذا كانت هذه المديريات مصابة بالشلل والعجز، فإن من الأَولى أن تتم "معالجة المفاصل المعطوبة والمَواطن الراكدة لتنشيطها وإعادة الحياة إليها" بدعمها مادياً وحقنها برموز ثقافية تمتلك رؤى لبناء استراتيجية ثقافية وطنية وقومية إنسانية.

هذا ما يذهب إليه د. سليمان الأزرعي أيضاً، وهو الذي أدار مديرية ثقافة إربد لفترة طويلة، كاشفاً أنه لم يكن مع قرار الإلغاء لقناعته بأن هذه المديريات ضرورة ثقافية فالمحافظات بحاجة إلى تنمية ثقافية حقيقية، مشدداً على أنه "كان ينبغي أن يرافق الإلغاءَ بدائلُ عملية وحقيقية، يبدو أنها كانت في ذهن صاحب القرار"، كأن "يُستنهض دور البلديات، ويتضاعف دعم الهيئات الثقافية غير الرسمية للفعل الثقافي"، لكن هذه البدائل لم تظهر، وبذا، حسب تعبير الأزرعي: "خسرنا في المحافظات دور المديريات ولم تظهر البدائل لتسد الفراغ الثقافي الحاصل".

قرار الإلغاء الذي عدّه مدير مديرية وحدة شؤون ثقافة المحافظات بوزارة الثقافة زياد أبو لبن "خطأ كبيراً ارتكبته الوزارة"، لم يأتِ من فراغ. هذا ما يقر به عدد كبير من المثقفين والمتابعين للمشهد الثقافي، لكن الأمر، كما بدا وقتها، من قبيل "ذهاب الصالح بعروة الطالح" كما يقول المثل الشعبي، في إشارة إلى أن مديريات فاعلة أُخذت بجريرة مديريات غير فاعلة أو مفعّلة. هذا الرأي يتبنّاه الأزرعي الذي قدم اقتراحاً آنذاك ب تقليص كل مديرية إلى مكتب ثقافي، على أن يرتبط هذا المكتب بمديرية إقليمية تنشأ في كلٍّ من الأقاليم الثلاثة: الشمال، والوسط، والجنوب.

وبعدما تفشّت أعراض ما يمكن دعوته "مرَضاً ثقافياً" يجتاح محافظات المملكة، خصوصاً تلك النائية عن العاصمة، إذ وجَدَ المثقف نفسه فيها يتيماً ومعزولاً عن المناخ الثقافي الذي كان يتواصل معه، أقلّه من خلال نشاطات الوزارة التي كانت تُقام في مديريات المحافظات، والمنشورات والكتب التي كانت توزَّع عبر تلك المديريات، تراجعت وزارة الثقافة عن قرار الإلغاء، بتوصية من المؤتمر الثقافي الوطني الأول الذي عقد سنة 2004، وحمل د.عادل الطويسي زمام المبادرة بإعادة الحياة لهذه الشرايين الحيوية التي تصل الأطراف بالمركز مع بداية العام 2007.

وكان الطويسي أوضح في تصريحات صحفية إبان تولّيه حقيبة الثقافة، أن إلغاء مديريات الثقافة كرّس مركزية التراكم الثقافي والفني لصالح العاصمة على حساب المحافظات، وغيّب الدعم للهيئات الثقافية في المحافظات إلا ما ندر. لذلك تقرر إعادة فتح المديريات انطلاقاً من أن الوزارة "لا تنتج الثقافة، بل ترعى الثقافة وتهيء البيئة المناسبة للإبداع الثقافي"، كما تم ربط الدعم اللوجستي والمالي للهيئات الثقافية في المملكة، بالبرامج التي تقدمها هذه الهيئات.

ولكن، هل انتهى كابوس الإلغاء الذي يعدّه أبو لبن "قصوراً وخللاً في اتخاذ القرار"، بإعادة فتح مديريات الثقافة لتفعيلها بالصورة المطلوبة؟ واقع الحال لا يؤشر على ذلك، فبعد عام ونصف العام على قرار إعادة فتحها، وتخصيص ميزانية لكلٍّ منها تبلغ سبعة آلاف دينار، ما تزال بعض مديريات الثقافة في المحافظات، وحتى اللحظة غير مجهّزة بالكامل.

وكما يؤكد أبو لبن، فمديرية ثقافة مادبا مثلاً لا مقر لها حتى الآن. أما بقية المديريات التي لها مقر فلم تُجَهَّز بما تحتاجه لمباشرة عملها، وهو ما يعزوه أبو لبن إلى "النظام البيروقراطي المعيق".

من جهته، يؤكد مدير مديرية المفرق فيصل السرحان أن "إعادة النبض لأوصال المديرية واجه الكثير من العقبات والمشاكل، وأن المديرية حتى الآن لا يتوافر فيها الأثاث واللوازم المكتبية والأجهزة الضرورية.." مشدداً على أن المديرية تفعّل دورها بالتعاون مع الهيئات الثقافية في المحافظة التي عاشت فترة يُـتْـم حقيقية عندما كانت المديرية مغلقة.

هذه الصعوبات واجهتها أيضاً بقية مديريات الثقافة، بشكل أو بآخر، وهو ما يؤكده مدير ثقافة إربد زايد الطاهات، إذ إن المديرية لم تباشر تنفيذ برامجها الثقافية حتى مطلع العام الحالي، مشيراً إلى "جهاد" المديرية لرعاية المشاريع والنشاطات التي كانت قائمة أثناء الاحتفال بإربد مدينة للثقافة الأردنية لعام 2007، كمهرجان القمح والزيتون، ومهرجان الغناء الصوفي، ومؤتمر إربد ماضياً وحاضراً..

أما رئيس قسم النشاطات في مديرية ثقافة جرش علي النوباني، فيؤكد أن المديرية تجتهد للقيام بدورها في رعاية الأنشطة والفعاليات الثقافية، وأنها تنفذ سياسية الوزارة من خلال توفير نافذة للجمهور المحلي لاقتناء كتب مكتبة الأسرة والمشاركة في مهرجان القراءة للجميع، وتوفير إصدارات الوزارة المختلفة لمثقفي المحافظة.

السؤال الذي يظل مفتوحاً على أحلام المثقفين وتطلعاتهم، في ظل وجود مظلة رسمية ترعى الإبداع في المحافظات، هو: ما المأمول من هذه المديريات، وهل هي قادرة على تلبية المرجو منها؟.

في محاولة لمقاربة الجواب، ترى د. رفقة دودين أن وجود مديريات الثقافة في المحافظات ضرورة ملحّة، "سواء أكانت هذه المديريات فاعلة أم لا، لأنها عناوين ثقافية لا يمكن الاستغناء عنها". وبحسب دودين فقد نجحت مديرية ثقافة الكرك بتوجيه الاهتمام للإبداع الشبابي وإبداع الطفل من خلال مساهمتها في إنشاء نادٍ للطفل، وإشرافها على عقد دورات للمبدعين الصغار في الموسيقى والرسم والكتابة بالتعاون مع مبدعي المحافظة، والمساهمة بإنشاء أكاديمية لرعاية إبداع الشباب بما يبقيها موصولة بقوة مع المجتمع المحلي.

أما مقدادي فيؤكد أن فترة التعطيل التي تعرضت لها مديريات الثقافة في الأردن ، أفقدتها القدرة على اكتساب المهارات والمرونة اللازمة لإنجاز حراك ثقافي متّصل وموصول، وبالتالي "خسرت جملة من التراكمات الاجتهادية في سياق الفعل الثقافي المرتقب"، ولهذا ما تزال حتى اللحظة تتأرجح مترددةً في اتخاذ قراراها بسبب قلة خبرتها وعدم انفتاحها على المثقفين في المجتمع المحلي، بحسب مقدادي، فهي "تخشى من التقدم باتجاههم كي لا تصطدم بطموحاتهم ذات السقف غير المحدود"، مثلما أن المثقفين يعدّونها مؤسسات رسمية "موصدة الأبواب محكومة بالبيروقراطية التي لا تنسجم مع الفعل الثقافي الخلاّق".

د. هند أبو الشعر تبدي تفاؤلها بقرار إعادة فتح مديريات الثقافة التي تعمل على "تحرير الثقافة من المركزية" بحسب تعبيرها، مؤكدةً أهمية "هذه الأذرع الممتدة"، مشترطةً في الوقت نفسه "أن يتم تفعيلها وخلق حراك ثقافي متعدد بالتعاون مع الأندية والهيئات الثقافية المختلفة". أما رئيس رابطة الكتاب الأردنيين سعود قبيلات، فإنه لم يرَ حتى اللحظة "برنامجاً ثقافياً ملموساً لهذه المديريات"، مؤكداً أنه إذا ما تقدمت أي من هذه المديريات ببرنامج ثقافي يقام بالتعاون مع الرابطة، فإن الرابطة "مستعدة للتعاون".

"آراء المثقفين وتطلعاتهم ستؤخذ في الحسبان". هذا ما يؤكده القائمون على المديريات، وبحسب أبو لبن، فإنه سيُعقد مؤتمر ثقافي وطني خلال حزيران المقبل بالتعاون مع المديريات والهيئات والمؤسسات الثقافية، لمناقشة وضع هذه الأقطاب الثقافية وتفعيلها بالشكل المطلوب.

مديريات الثقافة في المحافظات: طموح يكبله الارتجال
 
10-Apr-2008
 
العدد 21