العدد 21 - ثقافي | ||||||||||||||
حكمت النوايسة يمكن التعامل مع الفكرة وتجلّياتها على أنّها صرعة، أو فزعة، ونبذها في العراء، ويمكن التعامل معها بوصفها تجلّياً من تجلّيات تحوّل في الذائقة، وتدريب على ذلك التحوّل، ممنهج ومدعوم لإبعاد الناس قدر الممكن، عن اللغة الفصيحة التي باتت تشكّل خطراً حقيقيّاً على الانعزاليين والمستفيدين من التشرذم والتفكّك الذي تعانيه الأمة العربية، إذ إنّنا لا نستطيع أن نحسبه عفويّاً ذلك التسابق المحموم في كثير من الفضائيّات على جعل الخطاب منقولاً بهذه المحلّية أو تلك، وهو ما يمهّد إلى الانكفاء الثقافي الذي سيقود إلى ضياع الثقافة بإغراقها في مستنقع اللهجات المحلّية. ربّما يشي كلامي بالانسحاب وراء «ذهنيّة المؤامرة»، كاتب هذه السطور لا يميل إلى ذلك، ولا إلى التفكير بطريقة المؤامرة مع نجاعة هذه الطريقة في التفكير، في الحفاظ على الثوابت والمسلّمات الماديّة والمعنوية للأمة، عندما تكون المؤامرة في التفكير جزءاً من خيارات الرّصد، وليست كلَّ خيارات الرَّاصد، إذ إنها تصبح، حينئذٍ مرضا لا فكاك منه. حسنٌ، فلنخرج هذه الظاهرة (شاعر المليون، شعراء الملايين/ أمير الشعراء) من خانة المؤامرة، ونحاول وضعها في إطار ما، أين نضعها؟. هل نضعها في إطار المصادفة/ الصرعة؟ إذا وضعناها في هذا الإطار، فإننا نضعها في المكان الذي يجب أن نقاومها به، لأنها تقود إلى تعزيز اللهجات، الذي سيؤثر في ما ننشده من الارتقاء في اللهجة الفصيحة إلى أن تصبح لغة الخطاب اليومي في الشارع العربي، وهذا الحديث عن المسابقة التي تحتضن الشعر النبطي. أما المسابقة التي تختص بالشعر الفصيح، فإنّها بحاجة هي الأخرى إلى قراءة خاصّة، ذلك أنّها تعيد الشعر العربي إلى الحالة السماعية / الشفوية، أي تعيد تلقيناً الشعرَ إلى ما قبل الكتابة، وهي بذلك تحرف نسقاً كاملاً من تطور القصيدة العربية، والذائقة العربية باستبعادها النص المتأمّل بالنتيجة وفق الأسس التي تقوم عليها وهي السماع، والتصويت. السّمّيعةُ في الأغلب ليسوا من الطبقة التي يعوّل على ذوقها، والمصوّتون، في الأغلب ليسوا من «الذوّيقة»، لأن المتذوقين غالباً ما يكونون من الفقراء الذين لا حول لهم في دفع تكلفة التصويت بالجهاز النقّال، أو حتى الإنترنت وغالباً ما يكونون قلّة، حتى لو توافّرت لهم تلك الإمكانيات. هناك مفردات كثيرة في مسابقة المليون للشعر النبطي تشجّع على قراءتها قراءة تحليليّة. من هذه المفردات مثلاً الرسائل القصيرة التي تعرض على الشاشات في تشجيع الشعراء، ففي هذه الرسائل ما يعود بالأمة إلى ما قبل الإسلام، من تفاخر بالأنساب والقبائل، حتّى إن بعض الشعراء يتقدّم أمام اللجنة، بالشكر لأبناء قبيلته الذين آزروه ليصل إلى ما وصل إليه. ومنها ظاهرة المديح التي تتفشّى في الشعر الملقى، والمديح عن حق وغير حق، كما إنّها تعيد الناس إلى العقلية الرعاعيّة، وقيادة العامّة بالكلام لا بالفعل، وبالسيطرة الصوتية لا بالتثاقف العقلي السليم. ولعلّ أسوأ ما يلاحظ في هذه المسابقة، أنّ النقاد الذين يحاكمون القصائد ويناقشونها، ينقلون الأدوات التي يستخدمها النقاد الجادّون في قراءة الأدب الجيد الجاد، ينقلونها لمعالجة قصائد سخيفة، أو ذات مستوى هابط في الجانب الثقافي، كالحديث عن تطعيم النص بالثقافة الأسطورية، أو الحديث عن الصورة الكليّة والجزئية، أو عن ثقافة النص، وما إلى ذلك وهم يناقشون نصّاً ينتمي نسقيّاً إلى ثقافة بدائية يقوله شاعر ليفخر بقبيلته، وهذا يشبه، إلى حدّ بعيد، استخدامنا لمنجزات التكنولوجيا في الحفاظ على شروط التخلف، وترسيخها. اللافت حقّاً في هذه المسابقة أو تلك من هذا النمط، هو حجم التعاطي معها، وتعاظم جمهورها، حتّى أنه يمكن للمرء أن يقول مطمئنّا إن أمسية لشاعر من «شعراء المليون» لو أقيمت في عمان بتزامن مع أمسية لأدونيس مثلاً، أو حتّى للراحل نزار قبّاني ، فإن نسبة الحضورفيها ستبلغ واحداً إلى عشرة لصالح «الشاعر المليوني». وهذا ما يقود إلى الحديث الذي نكابر ونسكت عنه، وهو الحديث في عزلة الأدب الجاد، وغربة الأدباء الجادّين في هذا الزمن. من هنا يمكن القول إن هذا الأمر يحتاج إلى ندوة، وربّما إلى أكثر من ذلك، كما تحتاج عزلة أدبنا الجديد إلى ندوة أو ندوات يأخذ بمضامينها الأدباء الجدد، أو ندفن المرحوم ونقرأ عليه الفاتحة! . |
|
|||||||||||||