العدد 21 - كتاب | ||||||||||||||
يسحر مصطلح «التجريب» الكثير من المخرجين المسرحيين الشبان في العالم العربي اليوم، سواء امتلكوا القدرة والخبرة والثقافة التي تؤهلهم لخوض غمار التجريب بمعناه الحقيقي أو افتقدوه. ويأتي انبهار هؤلاء المخرجين بالتجريب، في كثير من الحالات، من إحساس داخلي يغلفه الوهم بأن حضورهم في الوسط المسرحي، لا يتحقق إلاّ يتقديم تجارب إخراجية مختلفة عن التجارب السائدة، من دون أن يكون معظمهم قد اشتغل في سياق هذه التجارب بما يكفي لاكتشاف مكامن الخلل فيها، والتوق إلى التحررمن مواضعاتها ومظاهرها التقليدية. لذلك نادراً ما ينجح بعض هؤلاء المخرجين في صوغ عرض مسرحي ذي طابع تجريبي، يحتوي على ابتكار واجتهاد وقراءة مغايرة للنص الأصلي، او في الأقل ملفت للنظر بسماته الجمالية والدلالية. التجريب المسرحي بمفهومه التاريخي، رافق المسرح منذ نشأته في الحضارات القديمة؛ فالممثل اليوناني ثيسبس الذي طور الأناشيد، التي كان المنشدون في الاحتفالات الدينية الطقسية يمجدون بها الإله ديونيسوس، إلى عرض مسرحي (مونودرامي)، من خلال عربته الجوالة، كان مجرباً. والشاعر الدرامي أسخيلوس، الذي أضاف ممثلاً ثانياً، وطور الفعل الدرامي، كان مجرباً. وسوفوكليس، الذي أضاف ممثلاً ثالثاً، كان مجرباً لأنه عمق عناصرالبناء الدرامي، ووسع آفاق العرض المسرحي. وممثلو (الكوميديا دي لارتي) الايطاليين كانوا مجربين لأنهم أطلقوا للممثلين حرية الخلق والابتكار، وقدموا أسلوباً جديداً في العرض الملهاوي. وكانت طريقة فرقة الدوق جورج الثاني المعروف بـ (دوق ساكس مينينغن)، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، طريقة تجريبية في وقتها لأنها تجاوزت أحلام السابقين حينما حاولت البحث عن حل للتناقض بين المناظر المرسومة، وحركة الممثل الحي داخلها، وألغت فكرة الممثل البطل أو النجم، تلك الفكرة التي أفسدت مسيرة المسرح الأوروبي، وشوهته نصاً وعرضاً ما بين منتصف القرن الثاني عشر، ومنتصف القرن التاسع عشر، ووضعت لأول مرة، دور البطل في مسرحية اليوم في دور ثانوي في مسرحية الغد. أما التجريب المسرحي بمفهومه المتجدد، فقد تكوّن في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وارتبط بمفهوم الحداثة، بوصفها فعالية تقترن بالابتكار ونقض المألوف وكسر المسلمات، وهدم الأنموذج علي صعيد الرؤية والتقنية. وقد عدّ برشت، في محاضرته «في المسرح التجريبي»، التي القاها في أواخر الثلاثينات، أن كل مسرح غير أرسطي هو مسرح تجريبي. بيد أن عدداً من الدارسين الغربيين يرى أن ليلة العاشر من ديسمبر/ كانون الأول، قبيل انتهاء القرن التاسع عشر بأربعة أعوام، على مسرح (الأوفر) بباريس هي ليلة تاريخية، إذ إنها وجهت فوهة المدافع الثقيلة إلى نبض أرسطو والبناء الذي شيده للدراما، حينما عرض ألفريد جاري مسرحية «الملك أوبو)» التي قال عنها الروائي الفرنسي أندريه جيد: «إنها الشيء الخارق للعادة الذي لم ير المسرح مثله منذ وقت طويل»، ووصفها الشاعر والكاتب المسرحي الايرلندي و. ب. ييتس بأنها «علامة تنهي مرحلة كاملة في الفن». وقد كان هذا العرض بالفعل ثورة مسرحية كبيرة تمخضت عنها الاتجاهات التجريبية في المسرح العالمي، كالتعبيرية، والسريالية، والطليعية...إلخ. وإذا كان التجريب المسرحي في بدايته قد طال الشكل، فإن سمته الأساسية في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تجلت في محاولة الانفتاح بالمسرح على بقية الفنون، وفي خلق علاقة مختلفة مع المتلقين، وتوسيع هامشه. بذلك أخذ التجريب منحى جمالياً فنياً ومنحى أيديولوجياً. وارتبطت حركة التجريب في المسرح بتطور العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءة المسرح. وتكشف الدراسات الحديثة ،أن هذه الحركة توجهت إلى إعادة النظر في موقع الممثل في العملية المسرحية وبشكل أدائه، بل أن بعض تياراتها أراد إلغاء الممثل بوصفه إنساناً، وعده آلةً أو دميةً خارقةً يتحكم بها المخرج كما يشاء، أو تغييبه وتقليص وجوده في فضاء العرض. وفي ردة فعل لاحقةً على ذلك عاد الممثل ليصبح الوسيط الأول في عملية التواصل مع المتلقي، والعنصر الأساسي في تشكّل العرض المسرحي. كما حاولت هذه الحركة إعادة النظر في شكل المكان المسرحي، والخروج من العمارة المسرحية التقليدية إلى أماكن أخرى، والاهتمام بموقع المتلقي من العرض، وبالعلاقة بين الخشبة والصالة، والإفادة من التقنيات المتطورة في مجال الصوت والإضاءة، واستخدامهما بمنحى درامي. من خلال متابعتي للمسرح العربي، مشاهدةً وقراءةً، فإن العروض التجريبية الناضجة للمخرجين العرب الشبان تتركز في عدد محدود من البلدان العربية، ففي العقدين الأخيرين ظهرت تجارب مهمة لامست أفق الحداثة، وأسهمت في إخصاب المشروع الحداثي قي الثقافة العربية. وتجلت مظاهر هذه الحداثة في تغيير بنية الخطاب المسرحي التقليدي أو تحديثها، وابتكار أشكال ورؤى وتقنيات أدائية جديدة على المسرح العربي يمكن إدراجها في سياق «الحساسية الجديدة»، وبخاصة تلك التجارب التي توجهت إلى الإعلاء من سلطة القراءة برؤية معاصرة، مجردة النصوص التي اشتغلت عليها من مرجعياتها، ومقصيةً مبدأ المماثلة، ومحاولة الاقتراب إلى صياغات تشكيلية، بصرية للخطاب المسرحي، وإطلاق العنان للتخييل الحر، والانزياح عن الإطار المرجعي، إذا جاز استعارة هذا المصطلح من نقد الشعر، وإضفاء منحى تركيبي غامض على شبكة العلاقات بين الشخصيات بجعلها تتداخل بعضها مع بعض، بحيث يجد المتلقي نفسه أمام ضرب من الدهشة و الالتباس. |
|
|||||||||||||