العدد 20 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي لعل رجل الأعمال ورجل الدولة كمال الشاعر هو في طليعة مواطنيه الذين استشعروا هبوب ريح العولمة، فوجه أشرعته نحو اتجاه هذه الريح. لم يكن ذلك بأمر مستغرب عليه، فهو مهندس كيميائي كانت دراسته الجامعية الأولى في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم يمم عبر المحيط، شطر الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا. كان ذلك في أواسط أربعينيات القرن الماضي.بعد نحو عشر سنوات كان قد أنشأ دار الهندسة في بيروت برأسمال 3500 دولار أميركي.لم ينقطع في الأثناء عن موطنه ومدارج صياه في السلط وعمان، إذ واظب على التنقل بين العاصمتين اللبنانية والأردنية واتخذ له مسكناً هنا وهناك. وقد حصد نجاحاً مطرداً لما يتمتع به من حس إداري مرهف وخبرة متنامية بالأسواق، وبخاصة في حقبة الفورة النفطية الأولى منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكذلك لما امتاز به من حس سياسي، وقدرة على نسج علاقات مع رجال الدولة في لبنان، والكويت، والمملكة العربية السعودية، كان ذلك قبل أن يبني فروعاً ويشتري شركات في الأميركيتين ثم في إفريقيا وبميزانيات بمئات الملايين من الدولارات. في أواخر السبعينات، كانت دار الهندسة تمتلك حاسوباً "ضخماً" متواضع الإمكانيات، كما كان حال حواسيب تلك الأيام، وكان كمال الشاعر يوظف مهندسين أكفاء من جنسيات مختلفة، بمن فيهم أوروبيون، وأميركيون، ولاجئون فلسطينيون في لبنان. يرد كمال الشاعر نجاحه الى تنشئة والده له، تاجر الأقمشة عبده الشاعر، الذي استثمر ذهباً في تعليم أبنائه بدلاً من ادخار أموال لهم، وأرسى لديهم طموحاً متوقداً، وكانت قصة نجاح الأب مصدر إلهام للأبناء، ومنهم إضافة الى كمال، المرحوم الطبيب جمال والمحاسب وهيب. ومع اندفاع كمال للعمل في الخارج انطلاقاً من بيروت، لؤلؤة الشرق في الخمسينيات والستينيات، فقد نجح في المزاوجة بين عمله الحر المتقدم وبين الوفاء لاستحقاق الخدمة في القطاع العام. فبعد ست سنوات على تأسيس دار الهندسة في بيروت، استجاب لدعوة الداعي المرحوم وصفي التل، فعمل نائباً لرئيس مجلس الإنماء. كان رئيس الوزراء هو الرئيس الرسمي للمجلس، لكن العمل الفعلي كان موكولاً لنائبه كمال.وفي تلك الفترة تم وضع خطط خمسية للتنمية. يقول كمال الشاعر في كتابه "من الدار إلى العالم : سيرتي والمهنة " أن ذلك الموقع كان مناساً له، فلم يكن يرغب،بتولي منصب وزاري حتى لا يزج نفسه في سجالات سياسية.علماً بأنه في منصبه ذاك كان يتمتع بمرتبة وزير.في الكتاب الذي ترجمته وأصدرته "دار النهار" قبل أقل من عام واحتفت به الأوساط اللبنانية، يحرص المؤلف على تبيان حرصه على عدم الانغماس في السياسة. رغم أنه نسج علاقات سياسية واسعة، وكان رجال السياسة هم غالباً من مرشديه وملهميه، كما يذكر في الفصل الأخير من كتابه أمثال: اللبنانيين: شارل مالك، وريمون إدة، وصائب سلام، وغسان تويني، وتقي الدين الصلح. بل إنه انضم في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1970 الى حكومة وصفي التل الثانية، في الأجواء الكئيبة التي رافقت أحداث ذلك العام، وبعد بضعة أشهر كان كمال الشاعر رجل الأعمال والمهندس الكيميائي، يخوض مفاوضات مع قيادات فلسطينية في عمّان على الانسحاب من العاصمة والمدن وتسليم مخازن الأسلحة والذخيرة. وهي خبرة استفاد منها بعد خمس سنوات، لتأمين حراسة على مكاتب شركته في بيروت، بعدما لاحت نذر الحرب الإقليمية والأهلية في ذلك البلد، وقد تولت الحراسة قوات من منظمة الصاعقة الموالية لسورية. بعد أربعة وعشرين عاماً وفي ضوء اتفاقية أوسلو، يستجيب كمال الشاعر لدعوة متمولين فلسطينيين، وبالذات منيب المصري، فيترأس "شركة فلسطين للتنمية والاستثمار". في كتابه المذكور يخطىء المنظمات الفلسطينية على أحداث أيلول وعلى الحرب اللبنانية، بل يحملها مسؤولية الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.وقبل ذلك مسؤولية عدم القبول بقرار التقسيم عام 1947. فيبدو في موقف ناقد على الدوام للحركة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك اختيار نهج العمل المسلح، وينعى على هذه الحركة عدم أخذها بأسلوب اللاعنف الذي اتبعه المهاتما غاندي في تصديه للاحتلال البريطاني للهند. يسوق كمال الشاعر اتهامات أقسى لعبدالناصر الذي يربط اسمه ونظامه على الدوام بالتوليتارية،ويتهمه أيضاً بالتسبب بنشوب حرب حزيران وليس بوقوع الهزيمة فقط عام 1967، دون استذكار حسنة واحدة له.ورغم صداقات شخصية ربطته بقيادات بعثية : ميشيل عفلق، ومنيف الرزاز، وصلاح الدين البيطار، إلا أنه، وكما تفيد مذكراته، نأى بنفسه عن الانضمام للحزب، ولا يذكر في كتابه تأثيراً أو انطباعاً ما تركه انغماس شقيقه جمال في مواقع متقدمة ومؤثرة في الحزب. ورغم أن كمال الشاعر، رجل اقتصاد، ومن فئة التكنوقراط، إلا أن حياته العامة وخدمته في بلده لم تخل من اتخاذ مواقف نقدية فقد تخلى عن عمله في مجلس الإنماء والإعمار، احتجاجاً على تخصيص أموال وتوجيه قدرات عسكرية ( سلاح الطيران بالذات ) لدعم الإمام بدر المخلوع في اليمن.ليس من باب مناصرة العقيد السلال آنذاك، بل من زاوية رفض الانغماس في صراعات إقليمية، وتخصيص البلد الفقير أموالاً لغايات سياسية خارج الحدود.بل إنه، كما يقول في كتابه، كان من معارضي مشاركة الأردن في حرب العام 1967، أسوة بوصفي التل الذي استقال من رئاسة الحكومة ليخلفه سعد جمعة قبل نشوب الحرب بشهرين. في محطات أخرى، ينتقد كمال الشاعر، وهو من أمضى في مجلس الأعيان دورتين، عدم الإفادة من خبرات رؤساء حكومات سابقين أو بعضهم، على الأقل، بتغييبهم عن عضوية الأعيان. في مواضع أخرى، يوجه نقده الى النظام الضريبي الخاص بالشركات الذي لا يعتمد مسطرة واحدة. لا يتوقف الرجل عند النقد، إذ يسهم بتقديم اقتراحات تم الأخذ بها بالتوسع في استخدام الحاسوب بالمدارس، وتعليم التلاميذ اللغة الإنجليزية منذ السنة الابتدائية الأولى، مستلهماً مصادفته لصعوبة في دراسة بعض العلوم والمعارف في أميركا رغم أنه خريج الجامعة الأميركية في بيروت. علاقاته الواسعة بالمراكز الاقتصادية في الغرب وبالمؤسسات النافذة فيه، وإقامته المديدة هناك،أورثته إعجاباً غير خاف بالنموذج الغربي. يعرف نفسه في كتابه وفي أكثر من موضع بأنه يؤمن بقومية عربية منفتحة ولبيرالية وبقيم الحرية والديمقراطية، وقلما يقع القارىء على نقد للسلوك الغربي تجاه منطقتنا، باستثناء ربما عدم الرضى عن وعد بلفور. كمال الشاعر، رجل مكافح، وموهوب، وواسع الأفق، يمتهن النجاح، أسهم في خدمة بلده على مدى عقود وفي رسم صورة زاهية لهذا البلد في أنظار الإعلام، مع ما يتردد عن حزمه الذي يبلغ حد القسوة تجاه أقرب الناس إليه إذا رأى منهم تقصيراً أو تهاوناً، أما الشعبية، فهي آخر ما يفكر به إن كان يفكر بها.. |
|
|||||||||||||