العدد 3 - ثقافي
 

يمكن أن تكون دوريس ليسينغ عنيفة، ولكنها، وكما هو متوقع من امرأة في الثامنة والثمانين فازت لتوها بأعلى وسام أدبي في العالم، كانت هذا الصباح مليئة بالحبور.

إن درجات منزلها المتداعي في غرب هامبستيد تصطف فيها باقات الزهور، أما غرفة جلوس الطابق العلوي، والتي أتذكر أن آخر مرة قابلتها فيها كانت قاتمة قليلاً ومحتشدة بأبراج الكتب والمجلات واللوحات ثقيلة الظل وستائر الحائط، فإنها تشع اليوم بالزهور ذات الظلال العميقة من البرتقالية والحمراء.

تقول ليسينغ: «من الواضح أن الناس يربطون بيني وبين الغروب».

يبدو قطها عابساً، فتقول إن ذلك سببه عدم حصوله على الانتباه الكافي بسبب كل هذه الجلبة.

وعلى الرغم من اضطرابات الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، فإن الهاتف كذلك يرن بشكل متواصل، فتذهب إليه بتثاقل للرد على المهنئين.

وتقول بغبطة ظاهرة، إن أفضل مكالمة جاءتها من بطلها غابرييل غارسيا ماركيز، وتضيف: «لقد أثر فيّ كثيراً العدد الكبير من الناس الذين كانوا مسرورين لأجلي».

إن الذي كان مرجحاً فوزه في الجائزة لهذه السنة رجل جدالي عجوز، غزير جداً في إنتاجه الأدبي، ومشهور بكتابته عن الاستمناء والسياسة والاضطراب العصبي عند الذكور، هزم على يد «الدخيلة»، وهي عجوز جدالية كذلك، وذات إنتاج أدبي غزير، وهي مشهورة بكتابتها عن الحيض والسياسة والاضطراب العصبي النسائي. إنها، كما لاحظت جميع التقارير، المرأة الحادية عشرة فقط، التي تفوز بالجائزة في عامها الرابع بعد المئة، فهل يعد هذا نصراً للكاتبات؟.

«أكره تقسيم الأدب على أساس الرجال والنساء، إن ذلك غير مفيد»، ولكنها تأسف لأن اسم فرجينيا وولف غير موجود في قائمة الفائزين.

وربما نزع طابع المفاجأة من اختيار ليسينغ أنها، وقبل كل شيء، روائية أفكار ومثاليات. إنها كاتبة من حقبة ما بعد الاستعمار والشيوعية، وهي مناصرة للمرأة وروحانية النزعة - هناك القليل من المذاهب التي برزت في القرن العشرين ولم تعلق بها، سواء كان ذلك متعمداً أو عن غير قصد.

أسألها حول الناقد الأدبي هارولد بلوم، وقوله إن قرار الأكاديمية «لباقة سياسية صرفة». فتجيب: «هارولد من؟ ..بلوم.. أوه، هارولد بلوم. ما الذي يقصده في رأيك؟ ربّما يعتقد بأنه حان الوقت لمنحها لامرأة». الهاتف يدق من جديد، فتقول وهي تضحك: «أخبري هارولد بلوم بأن لدي توصيات غنية كثيرة».

إذاً ما الذي تعتقده سبباً لحصولها على الجائزة، بعد أربعين عاماً من وجودها على لائحة الانتظار؟

«من المحتمل لأنني أكتب بطرق عديدة ومختلفة، مع إيماني الراسخ بامتلاكي لهذا الحق. إنها قائمة رائعة».

هل كان سيخيب أملها لو لم تفز بالجائزة؟

«لا، لقد استمر الأمر لسنوات وسنوات. بصراحة، لقد كان مملاً جداً. لقد فزت بجميع الجوائز الأوروبية، هذا هو الأمر الأكثر فتنة، ولكن هذا لا يعني القول إنه الأفضل من وجهة النظر الأدبية».

هي بلا شك أكبر عميدة بريطانية للحركة النسوية - العباءة التي تحاول خلعها منذ أن أعلن (دفتر الملاحظات الذهبي) أنه «الكتاب المقدس للحركة النسوية» في العام 1962. فهل هي حقاً، كما قالت، ترى الرواية كطائر «القطروس»(2) الخاص بها؟

«هذا الكتاب يتصف بتهمة معينة خاصة به، يجب أن أعترف بها. إنه يستمر في الظهور في مكان ما في بلد آخـر، ويجبـرني على القول (يا إلهي، هذا الكتاب يمتلك شيئاً). إنه يمتلك النوعية والحيوية».

زميلها الفائز بجائزة نوبل جي إم كويتزي، قال إنها «واحدة من الروائيين أصحاب الرؤية العظيمة في زماننا». وهنالك أمر يتم التغاضي عنه في العادة حول ليسينغ، وهو أنها كانت رائدة في الشكل بالقدر نفسه الذي كانت فيه رائدة في الفكر. فقد تطور فنها القصصي من الواقعية الإنسانية في رواياتها المبكرة إلى مرحلتها الخيالية المتوسطة. وهي فخورة جداً بسلسلة الخيال العلمي الخاصة بها التي تركت النقاد حائرين في أمرها.

روايتها الأخيرة «الشق» تصور الجنس النسائي (الشقوق) الرمزية، كورمٍ وكسلٍ، لكنه مفيد للاستعمال، والرجال كـ “نوافير” مغامرة فضولية، وهو الأمر الذي أدى إلى غمغمة كبيرة في وسط الناقدات.

وكما هو الحال مع الشاعر دبليو إتش أودين، فإن الصور الجميلة لليسينغ في سنواتها التالية، جعلت منها واحدة من الوجوه المألوفة في عالم الأدب. فمع ملابسها المعبرة عن خطوط الموضة في زمانها، والعينين بعيدتي المدى، يعطي وجهها انطباعاً بأنها تحدق إلى الخارج عبر السهوب الأفريقية، وهو تماماً ما ظلت مواظبة عليه منذ أن تركت جوهانسبيرغ في العام 1950، حاملة في حقيبتها مخطوطتها الأولى.

قصّة حياة ليسينغ ستكون مشهورة بين قرّائها، ليس فقط لأنها صرفت العديد من السنوات في تدوينها، بل كذلك لأنها تصف في مذكراتها، وبألفة غريبة، المشاهد والأصوات، وبشكل خاص روائح الأدغال الأفريقية التي حضنتها وشكّلتها. تصف طفولتها المقسمة بين النزهات الصاخبة وحياتها الداخلية الحادّة، تلك الطفولة التي تمت السيطرة عليها من قبل أمّها المستبدة، والتي استمرت في التصادم معها «بثبات، لكن بتردّد» حتى موتها.

وعلى الرغم من أنها تذكر الأم كثيراً في قصصها، إلا أنها، وحتى وقت قصير، استطاعت أن تكتب عنها بشكل مباشر، فهل سامحتها؟. «استطعت تفسيرها.. ربما تكون تلك مسامحة».

إن روايتها الأخيرة، التي قد تكون آخر ما تكتبه، أسمتها (ألفريد وإيميلي) باسم والديها. وصفتهما دائماً كما لو أنهما معاقان بسبب الحرب العالمية الأولى (أبوها جسدياً: فقد ساقاً؛ وأمها عاطفياً). في النصف الأول من الرواية «تلغي، لأجلهما، الحرب العالمية الأولى، لذا فهما يعيشان حياة عادية جداً، ومحترمة». أما الجزء الثاني فهو يلقي الضوء على ما حدث بعد الانتقال إلى روديسيا.

تقول: «أساساً، هو كتاب ضدّ الحرب، وهو الموضوع الذي لم يدر في خلدي عندما بدأت بالكتاب».

إذاً، كانت متأثرة في هذا بالأحداث العالمية الحالية؟

«لا، انا لست كذلك، أنا أكره الحرب بالطبع، وأعتقد بأن الكثير من الشباب ليس لديهم فكرة عن حقيقة الحرب، وكيف تكون. إنني أخشى كثيراً من أن ينظر الشباب إلى الحرب على أنها فعل فاتن».

قالت إن الإنجليز أفضل في «الروايات الوصفية الصغيرة، خصوصا حول الفروق الدقيقة بين الطبقات أو السلوك الاجتماعي».

وتقول: «هذا صحيح. إنهم يفعلون ذلك بامتياز»، فهل تعتقد بأن الرواية المعاصرة ينبغي لها أن ترتبط أكثر بالسياسة؟

وتجيب: «لا، قد تتفاجأين من جوابي، ولكنّي لم أعتقد أبداً بأن الرواية يتوجب عليها أن تكون رسالة سياسية: انظري في أعمالي، فهل تجدين رواية تحمل رسالة سياسية!».

إذاً، ما الذي تعتقد أنه إنجازها الأعظم؟

«ما فعلته هو أنني بقيت مستمرة في الكتابة مهما حدث؛ التصقت فيها. أحياناً كان ذلك يشكل صعوبة كبيرة، لا تنسي بأنّه كان لدي طفل خلال الجزء المبكر من حياتي الكتابية».

إحدى الفواصل التي ميزت حياة ليسينغ، وكما حدث مع موريل سبارك التي كانت مجهولة لديها في الوقت الذي عاشت في مكان قريب منها في روديسيا، هو أنها واحدة من أكثر الأدباء الرفضويين شهرة.

«طفل موريل كان تحت عناية جدية، وأطفالي تم الاعتناء بهم من قبل زوجة ثانية. هم لم يتركوا على عتبة الباب».

ألم تشعر بالذنب الفظيع؟

«لا، كما تعلمين ذلك شيء صعب. لأنني لو لم أغادر فإنني أعرف ما الذي كان سيحدث لي. كنت سأصاب بانهيار عصبي هائل، وأصبح مدمنة كحول. لقد كان خيار الرحيل فظيعاً، ولكنه كان خياراً صحيحاً».

لكن هناك سخرية حزينة في حقيقة أنّ ليسينغ أمضت السنوات القليلة الماضية تهتم بابنها المتوسط العمر من زوجها الثاني، بيتر، الذي يعيش في شقة مجاورة. لقد كان مريضاً جداً، وأدخل المستشفى لمرتين، لذلك فقد أصبح من الصعب جداً عليها إيجاد الوقت والطاقة للكتابة.

في الوقت الذي يدّعي فيه المؤلفون بأنهم يكتبون بشكل كامل لأنفسهم، فإننا نشعر أن هذا هو واقع الأمر مع ليسينغ، إنها تكتب عما تهتم به في تلك اللحظة، وإذا لم يعجب القراء فبإمكانهم طرحه جانباً، وهؤلاء القرّاء لا يحبونها فقط، بل يعشقونها.

تقول ليسينغ: «إنه أمر رائع، قابلت فتيات قلنَ لي: (أمّي أخبرتني أن أقرأ لك، وجدتي كذلك)، إنه حقاً شيء رائع، أليس كذلك؟».

ترجمة: موفق ملكاوي -ليسا ألارديك - الغارديان - السبت 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2007.

(1) القطروس: طائر بحري كبير.

(2) من محافظ، أي مقاوم للتغيير.

بعد فوزها بجائزة نوبل للآداب دوريس ليسينغ : قرأت لي ثلاثة أجيال – السجل خاص
 
22-Nov-2007
 
العدد 3