العدد 3 - ثقافي
 

بدأ شاعراً وصحافياً‘ وما زال كذلك، على نحو ما. ومنذ ثلاثة عقود، أنشأ “رياض الريّس للكتب والنشر” التي أصدرت ما يزيد على 800 عنوان قدمت مؤلفين جُدُداً ونشرت لكتاب معروفين أحسنَ إنتاجهم. وأصدر، عام 1989 مجلة “الناقد” الثقافية الحداثية الشهرية لست سنوات، وكذلك “جائزة يوسف الخال” للشعر، وجائزة “الناقد” للرواية. وما زالت إصداراته من الكتب مثاراً للنقد وحافزاً للنزعة النقدية. وفي هذا اللقاء مع “السّجل”، يؤكد رياض نجيب الريّس على ما زال يردده منذ أمد بعيد: إن أزمة النشر والتأليف والكتاب تعود، بتفرعاتها العديدة، إلى أصول واحدة: غياب الحريات السياسية والاجتماعية في البلدان العربية، وضآلة الاهتمام الكلي بشؤون الثقافة والمعرفة.

فيم الشكوى من تخلف صناعة النشر بينما تتوالد دور النشر العربية وتغرق الكتب المطبوعة الأسواق؟

أرجو، في ما يتصل بالكتب، أن لا نخلط بين الغث الغالب الكاسح، والسمين الشحيح، وبين الظلامي والتنويري. وسأبتعد قدر الإمكان عن لغة الأرقام، لأنها إن توفرت فهي كاذبة، وإن لم تتوفر فهي خداعة. وسأترك لغيري الخوض في أرقام معدلات التوزيع وإحصائيات نسب القرّاء وتوزيعهم الجغرافي وإلى ما هنالك من تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر كثيراً في مسار تعثر مهنة النشر في العالم العربي وتخلفها. والواقع، بالمقارنة مع عدد الكتب التي تصدر في الدول الأوروبية والأميركية، بتعدد لغاتها، فإن الأرقام الحقيقية لتوزيع الكتاب في جميع أنحاء العالم العربي مخزية.

وإلى ماذا، إذاً، يُعزى تعثر النشر العربي؟

ثمة سببان مترابطان لا ثالث لهما: ضعف البنية المالية والاقتصادية لمعظم الناشرين، مما يمنعهم من تمويل أعداد وفيرة من الإصدارات، وضمور الأسواق العربية نظرا لحواجز الأنظمة السياسية التي تفرض أنواعا من قيود الرقابة المتعددة التي تعرقل وصول الكتاب إلى القارئ. والرقابة في العالم العربي على أنواع: فهناك رقابة تقوم بها أجهزة إعلامية وسياسية هدفها حماية النظام القائم من النقد، أو أخلاقية لمنع ما يخدش الحياء من بعض الألفاظ التي تعتبرها نابية عندما يخرجها من سياقها الأدبي، أو دينية يعتقد الرقيب أنها تمس الشعور الديني العام. كما أن هناك رقابة المعارض، وهي رقابة استنسابية خاصة بمعارض الكتب تقوم بمنع ما يكون قد سمح له في البلد الذي يقيم المعرض، وتسمح بما منعته الرقابة الرسمية في البلد ذاته. كذلك تمنع عرض كتاب كانت قد سبق لها أن سمحت له الرقابات الرسمية في معرض سابق وفي البلد ذاته. وهناك، أخيرا، رقابة الأغلفة، وهي رقابة شبه مزاجية لا علاقة لها بفن التصميم والإخراج، إذ تمنع كتاباً لم يعجب غلافه الرقيب المكلف، لأسباب لا يفصح عنها عادة. وإذا أقررنا قصراً مبدأ الرقابة على الكتب في العالم العربي، وهو أمر غير مقبول وغير معمول به في العالم المتحضر إلا في ظروف استثنائية جداً جداً.

ولكن، ما هي، في تجربتكم، الكتب الأكثر انتشاراً؟

بالنسبة إلينا كناشرين شعبويين متنوعي العناوين، وبحسب أرقام شركتنا، فإن الأكثر انتشارا هي: كتب السياسة، الرواية، التاريخ، والمذكرات، الشعر والآداب. والأقل انتشاراً، ومردوداً تجارياً هي كتب الشعر، باستثناء كتب الشاعر محمود دوريش، التي تعدّ استثناءً على جميع الأصعدة. ويعتمد انتشار الكتاب، إلى حد كبير، على سمعة المؤلف وشهرته وصدقيته. ويجب لفت النظر في هذا المجال إلى أن بين الكتب الأكثر انتشاراً، كتب التراث الإسلامي والعربي القديم المستنسخة بعضها عن بعض، وأغلبها غير محقق، وبعضها مجتزأ ومبتور لأسباب تجارية بحتة، ولها أكثر من ناشر واحد، يختلفون بعضهم عن بعض في تزويق تجليد الكتاب، مرة مذهباً ومرة مفضضاً للعرض على الرفوف لا كتاباً مرجعياً للقراءة والبحث. وليس لهذه الكتب حقوق نشر أو ملكية فكرية. وهذه واسعة الانتشار كثيراً إذ لا رقابة عليها وتباع بأسعار زهيدة.

بعض الناشرين يحققون أرباحاً طائلة. فأين تقف «رياض الريّس للكتب والنشر» في هذا المجال؟

«الصيت ولا الغنى» كما يقول المثل. ومن أخطر الأزمات التي تواجه الناشر تحصيل الديون المتراكمة له لدى الموزعين. فإذا لبّى طلبات الموزع بالكتب الجديدة، ازداد تراكم الدين، وإذا لم يلبّه بار الكتاب في المستودعات. فليس هناك من تقليد أو قانون ينظم العلاقة المالية بين الناشر والموزع، أياً كان حجمه أو صفة طلباته. والناشر يعطي حسماً للموزع يراوح بين 40 و50 بالمائة من سعر الغلاف، وفي أحيان 60 في المائة، متحملاً في معظم الأوقات أجور الشحن مع العلم أن الدفع آجل. وإذا كان الناشر يرحب بالمعارض لأنها تشكل نصف دخله تقريباً، فإن ترحيبه يعود أيضاً إلى أنه يضعه على احتكاك مباشر مع القارىء، فيستميله بأن يبيعه الكتاب بثمن أرخص من السوق العادي. فالحسم الذي يعطيه الناشر للموزع، يعطيه للقارىء. لكن الذي حدث في السنوات الأخيرة أن كلفة الاشتراك في المعارض قد ارتفعت ارتفاعاً كبيراً حتى بات من الصعب على الناشر أن يعطي حسماً كبيراً للقارىء لتشجيعه واستمالته. والفكرة الأساسية التي يجب بحثها، والتي سيكون لها تأثير مباشر وفوري، هي إنه لما كانت الجهات الرسمية العربية (وزارات الثقافة والإعلام أو ما شابههما من مؤسسات) هي التي تقوم بتنظيم معارض الكتب العربية، وتطلق عليها ألقاباً دولية، برعاية مسؤولين حكوميين كبار وإن لزّمت بعض هذه المؤسسات الرسمية الحكومية تنظيم المعارض إلى شركات تجارية خاصة، فالأجدى أن تقوم بخفض رسوم الاشتراك العالية.

وكيف يتحقق التوازن بين دافع الربح التجاري والاعتبارات الأخرى؟

الناشر ليس مؤسسة خيرية، أو تابعاً لقطاع عام، بل شركة تبغي الربح التجاري المعقول وفق آليات معروفة في العالمين العربي والغربي. فالنشر يتم بطريقتين: إما أن يعرض مؤلف ما مخطوطته للناشر، فتُقبل أو تُرفض، أو يكلف الناشر مؤلفاً ما، أو مجموعة مؤلفين، بموضوع كتاب أو كتب ويتفق معهم على مواصفاتها. والأمر الأول هو الشائع والأسهل في العالم العربي. ويتخد قرار نشر الكتاب،في شركتنا مثلاً، عبر أكثر من لجنة مصغّرة للقراءة في اختصاصات معنية. فللرواية مثلاً لجنة تقرأ المخطوطات الروائية وتعطي رأيها فيها. وهناك لجنة أخرى لكتب السياسة والتاريخ والشعر والأدب. ويحيل قرّاء هذه المخطوطات مقترحاتهم إلى مدير الشركة الذي يتخذ قرار النشر، ويتحمل مسؤوليته وحده. وهكذا يضع المدير ومسؤولوه برنامجاً نشرياً ضمن أجندة تأخذ في الحساب تنوع الكتب التي ستنشر ومواعيد صدورها، التي ترتبط إلى حد ما بدورة المعارض العربية.

يقال إن اقتناء الكتاب والقراءة ودعم المؤلف والناشر قد غدت كلها ترفاً لا يمارسه إلا القادرون.

من الطبيعي أن تؤدي الأسعار دوراً أساسياً في انتشار الكتاب في العالم العربي. لكن ليس إلى الحد الذي يتصوره بعض المراقبين. صحيح أن القدرة الشرائية ضعيفة في الأقطار ذات الدخل المحدود، كالعراق واليمن وفلسطين والأردن وسورية ولبنان ومصر، مقابل قدرات دول الجزيرة العربية الغنية، إلا أن من السخرية القول إن مخزون القرّاء الأساسي هو في هذه الدول الفقيرة إجمالاً. ومع ذلك يقبل القرّاء «الفقراء» على شراء الكتاب ويقتطعون ثمنه من احتياجات أخرى. ولا يتردد قارىء فقير أو غني في شراء كتاب يريده، ما دام سعره معقولاً، وفي متناوله. وهؤلاء هم القرّاء الذين يشكلون عصب الداعمين للكتاب. إن جودة مضمون الكتاب وسمعة المؤلف والرغبة في الاطلاع على موضوعه، إلى جانب جاذبية توضيب شكل الكتاب وغلافه، كلها عوامل تدفع القارىء إلى اقتناء الكتاب. ويكتشف الناشر أن الفقراء هم الذين يقرأون، أما الأغنياء فيتفرجون!

والتزوير، والقرصنة، وحقوق الملكية الفكرية ؟؟

تكمن هنا واحدة من أصعب مشكلات النشر العربي. وهناك ناشرون مختصون في هذا المجال. وكل كتاب يزور يحدّ من انتشار الكتاب بقدر ما يسيء إلى سمعة البلد والناشر، أكثر مما يضر بالناشر مالياً. والكتاب الذي يزوّر هو الكتاب المعروف لمؤلف مشهور، والأكثر تعرضاً للقرصنة هي الكتب الرائجة ذات الموضوع الدائم، وعلى رأسها القواميس والمراجع العلمية من ناحية، والكتب كالروايات الواسعة الشهرة أو المجموعات الشعرية لشعراء معروفين مثل نزار قباني ومحمود درويش. ويتفهم الناشر أن يزّور كتاب في العراق نظراً لظروفه المأساوية، أو في فلسطين المحتلة لظروف مماثلة، لكن ليس مفهوماً أن يزوَّر الكتاب في بلد يملك ظروفاً عادية. هنا يجدر التساؤل: مَنْ يحمي الناشر من التزوير؟ وإلى مَنْ يشكو أمره: إلى نقابة الناشرين أم اتحاد الناشرين أم القضاء المحلي؟ ولعل من الأفكار البديهية أن يمنع أي ناشر يضبط بجرم التزوير من الاشتراك في المعارض أو المواسم الثقافية، حيث نجده في كثير من المواقع معززاً مكرماً.

أما في موضوع “حقوق الملكية الفكرية”، فلا تنشأ المشكلة إلا مع ناشرين أجانب حول شراء حقوق الترجمات وعدد الطبعات وكلفة الترجمة، وخلاف ذلك من لزوميات العلاقة بين ناشر عربي وآخر أجنبي.

وكيف يسوّق الناشرون كتبهم؟

هناك طريقتان متّبعتان. الأولى هي الإعلان عن إصداراتهم في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وهذا يحتاج إلى موازنة مالية لا تملكها أغلب دور النشر. والثانية، عن طريق إرسال إصداراتهم إلى محرري الصفحات الثقافية والمجلات الأدبية في الصحافة العربية، بغية عرض هذه الإصدارات والتعريف بها ومراجعتها، وتكليف أحد كُتّاب تلك الصحيفة بكتابة نقد، (مع أو ضد، لا فرق). لذلك الكتاب. والصفحات الثقافية في الصحافة العربية لا يعنيها أمر الكتاب إلا فيما ندر. حتى إن البيان الصحافي الذي يكتبه الناشر تعريفاً بإصداره ويرسله إلى الصحيفة (وهي محاولة من الناشر للتعويض عن كسل المحرر من بذل أي مجهود)، لا يجد طريقه إلى النشر إلا في حالات قليلة. هناك أزمة بين الكِتاب وجرائد اليوم، لم تكن قائمة قبل عقد أو عقدين. في صحافة الماضي كان الصحافيون المعنيون بمتابعة شؤون الثقافة، يتسابقون للكتابة عن كتب صادرة حديثاً والتعريف بكتّاب جدد أو قدامى. أما اليوم فتحولـت الصفـحــات الثقافية إلى التطبيل والتزمير لشلل أدبية ومهرجانات موسمية يدعى إليها محرروها، أصبــحت بفعــل الزمن والممارسة، نوعاً من العصـبية القطرية والتعصب «الحزبي» لكاتب ما.

وإذا كانت هذه حال الصحافة المكتوبة، فما بال حال التليفزيونات. فليس هناك حتى الآن في كل التلفزيونات العربية وجميع الفضائيات برنامج واحد عن الكتب والكتاب، شبيه ولو من بعيد ببرامج الكتب التي تظهر في بريطانيا، أو فرنسا. وقد بذلت محاولات مع بعض الأقنية العربية، ولقاءات مع المسؤولين فيها، لكنها باءت بالفشل.

من هموم الوراقين في منظور الحكومات: الكتاب مخدرات، والناشر مهرب والمؤلف إرهابي – أجرى اللقاء المحرر الثقافي
 
22-Nov-2007
 
العدد 3