العدد 20 - ثقافي | ||||||||||||||
ألوان أخرى مقالات وقصص
أورهان باموك ترجمة مورين فريلي مراجعة :كريستوفر دي بيليغ في 1988، حاول كاتب مغمور اسمه أورهان باموك أن يكمل «الكتاب الأسود»، روايته الرابعة التي لا تزال تمثل أبرز تحدياته إلى اليوم. يستذكر باموك في مجموعته القصصية "ألوان أخرى" ويقول " .. مع اتساع رقعة الكتاب، زادت مساحة استمتاعي بكتابته". ربما كان ذلك عزاءه في "الرواية التي أبت أن تنتهي." وجد باموك نفسه وحيدا وخلجاته، أشعث الشعر مهلهل الثياب "يمسك بحقيبة من البلاستيك ويضع قبعة ومعطفا رثا، ويلبس حذاءا باليا. كنت أذهب إلى أي مطعم قديم على هذه الحال وأتناول طعامي كالذئب، أرمق من حولي بنظرات عداء." لقد كان مسكونا بالفشل والإحباط"، كما يقول. حالة أورهان باموك هذه- حالة العدم المستعصية التي طالما تنبأت بها أمه- ضعها مع الشخصية الأدبية المتميزة التي نراها اليوم، فتحصل على فكرة عن الإنجاز الذي حققه هذا الرجل. ولد باموك في بيئة ثقافية مهزوزة تفتقر إلى الإبداع، تجثم تحت ثقل عالم أدبي فقير في أجواء تركية شابها التشكك وعدم الثقة. باموك الصغير كان جريئاً فجرب حظه في الفن الأجنبي الذي لم ينجح فيه سوى قلة من الأتراك. والبقية تتحدث عن نفسها بنفسها –روايات حققت أكثر المبيعات في العالم، مذكراته القيمة: إسطنبول، وجائزة نوبل في الآداب لعام 2006. في "ألوان أخرى"، يقدم لنا باموك نظرة متفحصة في حياته الأدبية والطريقة التي يرى هو فيها نفسه ويحب الآخرين أن يرونه بها. باموك عبر عن آرائه في السياسة والتاريخ؛ وأشهرها ما كان في 2005 عندما قال إن الكثير من الأرمنيين والأكراد قتلوا في تركيا، وهي العبارة التي تسببت في ملاحقته الفاشلة على أساس أنه "يهين التركية". لكن رغم ذلك، نجد أن باموك كاتب ينزع إلى ذاته كثيرا. يمكن القول أن مجمل رواياته تشكل واحدة من أهم السير الذاتية إذا هي اختزلت. خطابه في حفل تسلمه جائزة نوبل، كان أشبه بالبوح إلى الذات، على النقيض تماما من المهرجان الخطابي الذي قدمته دوريس ليسينغ الفائزة بنوبل في ديسمبر الماضي. وعندما يكتب عن المؤلفين الذين أثروا فيه، يستدعي الجلال والإكبار الذي كنه لهم في شبابه . فأورهان باموك يقرأ دوستوفسكي،و ستيندال وكامو و نابوكوف ولكن ليس دوستوفسكي وستيندال وكامو ونابوكوف الذين نقرأهم نحن! . دوستوفسكي هو الأهم من بين هؤلاء، ولهذا علاقة بما يعتبره باموك "ألفة روسية مع الفكر الأوروبي وغضبه منه، ورغبته في أن ينتمي إلى أوروبا و أن ينسلخ عنها في آن معا" . الجمهورية التركية التي أسسها كمال أتاتورك في العشرينيات لم تسو العلاقة السياسية والثقافية مع أوروبا، فكرس باموك نفسه لاختبار التجاذبات بين الإيمان والعقلانية، وبين الدينية والدنيوية، التي نجمت عن هذا الخلل. عندما يكتب أن دوستوفسكي "لم ترقه رؤية المثقفين الروس وهم يعتبرون صلتهم مع أوربا تجعل منهم قيمين على أسرار الكون" . يتذكر المرء ازدراء باموك من اقتناص الكماليين لأفكار مشابهة من الأوروبيين. قد يجوز القول أن هذه الأفكار وجدت صدى أدبيا بين "كتاب ذكور، منحطين، متواضعي النجاح، نصف أذكياء، وجريئين" أفضل كتاباتهم كانت تجد طريقها إلى فصل "كيف تخلصت من بعض كتبي". فباموك يستمتع في رمي الأشياء. لكن على النقيض من دوستوفسكي، لم ينخرط باموك قط بشكل مباشر على الأقل أو متواصل في سياسة بلده، ومن السهل أن ندرك السبب. فقد كان يزدري الكماليين في الخفاء، لكنه في الوقت نفسه لم يكن راغبا في الميل إلى حيث مال الوطنيون الأتقياء – الموازون لأنصار السلافيين في روسيا القرن التاسع عشر – الذين يحنون إلى أيام الامبراطورية العثمانية وثوابتها الراسخة، وعظمة الأتراك و مجد الرب. التشكك السياسي الديني، والتمعن الأدبي جعلا باموك وحيدا في موطنه. لو كان له مناظرين، لكانوا الكتاب الأتراك الشباب – بريهان ماغدين واحدة منهم – التي تكتب روايات عميقة الفكر بلغة تركية حديثة خلاقة. خلافها مع الكمالية لم يكن على أساس أنها غربية أكثر من اللازم، ولكن على أساس أنها لم تكن غربية بما يكفي؛ فهي – أي الكمالية - لا تثق بالديمقراطية أو التعددية. باعتباره كتابا جُمع من مصادر مختلفة، نجد أن "ألوان أخرى" كتاب متعرج غير مستو. فالكتابة عن إسطنبول، بما فيها الفصول عن الطعام السريع، وعبارات البسفور، والزلازل، ليست أقل تشتيتا للانتباه. لكنه حذف من النسخة التركية الأصلية بعض الأجزاء الجيدة، مثل تقديره للكاتب التركي المتناسى أحمد حمدي طنبينار. ربما جاء هذا الحذف حتى يحافظ القارىء الغربي على ألفة المكان وألا يشعر أنه غريب. استبدلت هذه الأجزاء بأخرى تداعب خيال القارىء مثل "مشاهد من عاصمة العالم" الذي تحدث فيه عن نيويورك. باموك روائي أفضل منه كاتب مقالات. في وصف نافذ للأثر الذي تركته رواية "الأخوة كارمازوف" وهو صبي، يستغرق باموك صفحة كاملة ليقول ما يقوله في السطر الأول من روايته "الحياة الجديدة". في جملة واحدة يكتب "أقرأ كتابا يوما وتتغير حياتي كلها." مواطن الضعف هذه لا تقلل من شأنها ترجمة مورين فريلي التي أتت مسطحة في شواهد أكثر إشراقا، نقرأ القصة القصيرة "أن تنظر من النافذة." في هذه التحفة الحزينة، يستحفز باموك لامبالاة صبي في مرحلة ما قبل الإدارك وندم الشاب في طور البلوغ، إرث عائلة إسطنبولية ميسورة في الخمسينيات. "ألوان أخرى" يتضمن أيضا ثلاثة خطابات جيدة كتبها لجمهور أجنبي. في واحدة منها، يصف الأثر القاتل الذي خلفته تجربته مع الأدب الأجنبي على إبداعه. في الثانية، يبرر إحجامه عن السياسة في بلد يدفق بالسياسيين الشغوفين، فهو لا يطمح في شيء "إلا أن يكتب الروايات الجميلة"، وهو لا يثق بالآراء القوية، لأن "معظمنا نتبنى أفكارا متضاربة في وقت واحد." الفصل الأخير هنا، خطاب باموك في تسلمه جائزة نوبل، يبدأ بتحية لوالده وينتهي بقائمة الأسباب التي من أجلها يكتب – خطاب فيه تناقض وإنسانية، وفيه إيثار ونرجسية كما هو حال الكاتب نفسه. في "ألوان أخرى"، يكشف باموك عن نفسه أكثر مما يرغب. أن يجعل نفسه على مقربة من دوستوفسكي ونابوكوف يثير خلطا في الأوراق، فهو في آن واحد طموح لكنه لا يغامر. وبعكس ما ذهب إليه كريستوفر هيتشينز، فإن أوهان باموك لا يظهر ضحل المعرفة، ربما لأنه اكتسب المعرفة بطريق التجريب عندما وجد نفسه بين الرغبة في أن يكون ذا شأن في إسطنبول السبعينيات وبين ازدراء والدته. "ألوان أخرى" تظهره وحيدا، ذاتي التعلم، متهاون مع ذاته يلوذ بنفسه في هواجسه؛ وما هي إلا لمحات من أسرار عظمته كروائي. |
|
|||||||||||||