العدد 3 - ثقافي
 

عصر الثورة (أوروبا 1848-1789)

ترجمة: فايز الصُيّـــاغ، تقديم: مصطفى الحمارنة .

مؤسسة ترجمان/ منظمة الترجمة العربية 2007. عدد الصفحات 640.

ثمة ما يشبه الإجماع في أوساط الدارسين المعاصرين على اعتبار هوبزباوم واحداً من أشهر المؤرخين المعاصرين في بريطانيا وأوروبا؛ بل إن الباحثين اليساريين ينزعون إلى اعتباره أبرز مؤرخي هذه الأيام في العالم أجمع، أو أفضل مؤرخي القرن العشرين. وتميل الفئة الأولى إلى التركيز على جدارته العلمية، ونهجه الموضوعي المعمق الشامل المتعدد الأبعاد في دراسة التاريخ الحديث، بينما تضيف الفئة الأخيرة من المراقبين سلسلة أخرى من السمات التي تميز منهجه الفكري، ومن بينها منظوره الماركسي المادي الجدلي في تحليل الظواهر التاريخية، والتزامه التعايش مع واقع العالم المعاصر السياسي والاجتماعي، واستمراره، حتى وهو على مشارف التسعينيات من عمره، في التعبير عن مواقفه وآرائه الجريئة إزاء أحداث الساعة، ولا سيما مناوأته للصهيونية ولتغوّل الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية. وهو، في هذا السياق، يؤكد في مقابلة مع صحيفة الأوبزرفر: "نعم، إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل وهي سياسات كارثية شريرة؛ إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة] ... [وأعتقد اعتقاداً جازماً أن على اليهود أن يقولوا إن بوسع المرء أن يكون يهودياً دون أن يكون مؤيداً لإسرائيل".

وقد درج إريك هوبزباوم على التأكيد في المقدمات التمهيدية لكل أعماله- وفي "عصر الثورة" كما في غيره- على أنه لا يسرد التاريخ، ولا يعيد صياغته، ولا يؤرخ لوقائعه أو يصف أحداثه كما تفعل جمهرة "المؤرخين" من قُدامى ومحدثين على السواء. إنه، كما يقول، إنما يتوجه إلى القارئ والمراقب والباحث الذكي المتعلم فحسب، فيدرس ظواهر التاريخ الأساسية والأحداث الكبرى المؤثرة في حياة الناس في المجتمعات البشرية، ويحلل أسبابها ونتائجها المباشرة وغير المباشرة، ويربط بعضها ببعض على نحو متكامل، في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية دون استثناء، بحيث تكون الحصيلة النهائية صورة نابضة بالحياة للواقع البشري في مرحلة معينة، تتسلسل على نحو جدلي مع ما يسبقها وما يليها من مراحل.

وفي " عصر الثورة"، يتتبع هوبزباوم التحولات التاريخية الجسيمة البعيدة الخطر التي طرأت على أوروبا بخاصة والعالم عموماً بين العام 1789 والعام 1848. وانسجاماً مع منهجه التحليلي، يتطرق هوبزباوم في الجزء الأول من الكتاب إلى التطورات الأساسية التي شهدتها هذه الفترة على الصعيدين الأوروبي والدولي. ثم يتحول في القسم الثاني إلى مناقشة المعالم البارزة لطبيعة المجتمع الذي أنتجته تلك الثورة المزدوجة، مع ربط كل واحد من أبعادها وجوانبها بالآخر. وبعد أن يتحدث عن الخطوط العريضة لهاتين الثورتين، وما تلاهما من حروب، بما فيها الحروب النابليونية، والثورات والحركات السياسية في مختلف أنحاء أوروبا، ينتقل إلى تضاريس مجتمع ما بعد الثورة الجديد، ويتحدث، بأسلوب موسوعي شامل، عن التغيرات الجذرية التي طرأت بعد الثورة المزدوجة على البنية الطبقية والتنظيم السياسي في أوروبا، والتحولات التي تجاوزت مجالات الصناعة والاقتصاد والسياسة لتشمل الجوانب الأيديولوجية (بما فيها الدين والنزعة العلمانية)، ثم العلوم والآداب والفنون. ويمضي بنا هذا الكتاب ليضعنا على أعتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كان هدير الموجة الثانية من الثورات يتصاعد من أعمق أعماق الأرض في الممالك الأوروبية كافة، توطئةً للانفجار العظيم عام 1848.

وفي المقدمة التحليلية التي وضعها هوبزباوم لجمهرة الناطقين بالعربية، يتحدث عن التداعيات التي شهدتها مناطق المغرب والشرق الأوسط، والعالم الإسلامي بصورة عامة، في الفترة التي تبدأ بأواخر القرن الثامن عشر. فقد كان للتحولات المثيرة في أوروبا أثر مزدوج على العالم الإسلامي؛ إذ إنها أذكت روح المقاومة والإصلاح في آن معاً. فأصبح الإسلام، من جهة، قوة لحشد المقاومة ضد غير المؤمنين الذين غدوا الآن في موقع يمكنهم من غزو أراضي المسلمين واحتلالها، سواء من الروس شمال البحر الأسود وشرقه، أو من جيوش فرنسا الثورية التي وصلت إلى مصر وسوريا، واستعادت النظام الملكي الفرنسي الذي سيطر على الجزائر. (وفي تلك الأثناء، كانت الصيغة البريطانية، التي جمعت بين التجارة والرفاه والدبلوماسية، تؤسس وتوسع الحكم البريطاني في الإقليم، على أنقاض إمبراطورية المغول المتهافتة). ومن جهة أخرى، أظهر التفوق الغربي قوة الأفكار وأساليب العمل الغربية والحاجة إلى التعلم منها. وقد تجسد ذلك، لحسن الحظ، في الثورة الفرنسية، وهي النهضة الأعظم والأكثر تأثيراً على الصعيد العالمي في ذلك العصر، كما أنها، بالتأكيد، أول حركة للأفكار الأوروبية تترك آثارها على العالم الإسلامي، لأنها لم تعد تمثل نزعات دينية في المسيحية الغربية. وفي القرن التاسع عشر، كانت تأثيرات الإصلاح هي الأعمق وقعاً في مصر التي حققت ما يشبه الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية في عهد محمد علي.

ففي عهده، ومن خلال الاستعانة بمستشاريه الفرنسيين والإيطاليين الذين استوحوا اتجاهاتهم من الدعاة الثوريين ومن أوائل الاشتراكيين، أصبحت مصر أول دولة إسلامية تدخل مرحلة التحديث بصورة منظمة، وأول دولة غير أوروبية تسعى إلى سلوك سبيل التحديث للخروج من التخلف الاقتصادي. فقد احتفى محمد علي بالتصنيع، وبالتقانة الغربية، وبالإنتاج الذي يستهدف التصدير إلى أسواق “غربية”، وعكف على إعادة تنظيم الإدارة والتعليم والاقتصاد، وفرض سيطرة الدولة على المؤسسات الدينية في بلاده، وتصدى لمساعي الوهابيين للسيطرة على مكة والمدينة.

واكتسبت مصر، في واقع الأمر، البنية التحتية للمجتمعات الحديثة، وعناصر النخبة الاقتصادية الجديدة العازمة على التحديث، بمن فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في مصر، والوافدون من أنحاء العالم. وقدمت هذه النخبة، فيما بعد، الدعم لأوائل الدعاة الذين نادوا بتحديث الإسلام في الشرق الأوسط، مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وطَرحت، في وقت لاحق، مفهوماً عَلْمانياً لمجتمع مصري مستقل. وقد ظلت مصر، في أكثر من ناحية، تحتل مكان الصدارة في مساعي التحديث، منذ انتفاضة الضباط التقدميين بزعامة عرابي عام 1881 لإقامة حكومة دستورية، وحتى بعد ثورة الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر عام 1952. وبما أن مصر، بثروتها الزراعية وموقعها الاستراتيجي، وقعت ضحية للقوة الاستعمارية الاقتصادية العسكرية المتفوقة، فقد اتخذت موقع الريادة في معاداة الاستعمار، وأصبحت (هي وأيرلندا) أول دولتين تابعتين تُرغِمان الإمبراطوريةَ البريطانية على التراجع عام 1922. إن نظرة استرجاعية لأحداث الماضي تدلنا على أن الأثر الإصلاحي لعصر الثورة في الأجزاء الرئيسية للإمبراطورية العثمانية كان أكثر عمقاً.

وما يزال هوبزباوم يواجه حتى اليوم صنوفاً شتى من النقد لا شأن لها بالنزاهة الأكاديمية أو الأمانة العلمية. بل إنها تصدر عن إعتبارات سياسية في التحليل الأخير، وما زال إريك هوبزباوم يمضي قدماً في ما تبقى من أيامه الحافلة بالإنجازات العلمية والفكرية والمواقف السياسية. ويظل، في كل وقت، يردد عبارته المشهورة: “لقد أنجزت ما أنجزت دون أن أقدم أية تنازلات أو أساوم على الإطلاق”.

ويشير مصطفى الحمارنة، في المقدمة العربية لثلاثية هوبزباوم إلى أن لهذه الأسفار الثلاثة جدارتها وأهميتها، وقيمةً معرفيةً لا حدود لها. كما أن لها قيمةً متميزة للقارئ والباحث والدارس العربي، لسببين على الأقل: يتجلى الأول في حرص المؤلف على استعراض الآثار والتداعيات التي انداحت على بقاع العالم الأخرى، وبخاصة على المنطقتين العربية والإسلامية، جراء الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، وحملات نابليون، والتوسع الاستعماري الأوروبي، وبدايات التفاعل الثقافي والعلمي والسياسي الحديث وبين العرب وأوروبا. أما السبب الثاني، فهو ما يؤكد عليه هوبزباوم في المقدمة التي وضعها خصيصاً لهذه الترجمة العربية.

فمنذ القرن السابع للميلاد، وعلى مدى ألف عام، كان "الغزاة" يداهمون أوروبا من الشرق لا من الغرب. وعلى الرغم من أن التبادل التجاري كان موصولاً بين الطرفين، إلا أن التحولات المثيرة في أوروبا منذ اندلاع الثورتين الفرنسية والصناعية، قد عكست اتجاه الغزو. فمع توسع الأوروبيين الاقتصادي والعسكري، تصاعدت في أرجاء العالم الإسلامي دعواتٌ تُذكي روحَ المقاومة للغزو الأجنبي، وتحض على الإصلاح الداخلي والتحديث في آن معاً، وذلك ما سيتطرق له هوبزباوم بمزيد من التفصيل في كتابيه الآخرين: "عصر رأس المال" و "عصر الإمبراطورية"، اللذين سيصدران هذا العام بترجمة فايز الصُيّاغ كذلك.

لا يسرد التاريخ، ولا يعيد صياغته بل يفسر ظواهره الكبرى إريك هوبزباوم: "أنجزت ما أنجزت دون تقديم أي تنازلات أو مساومة على الإطلاق
 
22-Nov-2007
 
العدد 3