العدد 3 - ثقافي | ||||||||||||||
قضيت عطلة نهاية الأسبوع في شطنا، هذه القرية السحريّة بين النعيمة وإيدون، شمال عمّان قبل إربد بقليل. كنت جزءا من الفريق الذي نظّم ورشة فنيّة جمعت 23 فناناً وفنانة من دول متعددة لمدّة أسبوعين في تمّوز في الصيف الماضي في شطنا، وهدفت هذه الورشة الى جمع عدد من الفنانين والفنانات في جوّ بعيد عن مشاغلهم وروتينهم ليتعرّفوا ويتبادلوا ويعملوا معا. وهكذا كان. ولعلّ البعض قد سمع عن أو زار “اليوم المفتوح” الذي أقيم في الورشة. فقد جاء إلى شطنا 500 زائر ليستعرضوا الأعمال التي نتجت عن الورشة والمعروضة في مختلف أنحاء شطنا، من بيوتات مهجورة وبساتين وسطوح دور ومغارات وغيرها. دلّنا إلى شطنا رجل مغرم بها. ونحن، فريق شطنا المكوّن من الفنانتين البصريّتين سماح حجاوي عريب طوقان بالتعاون مع علا الخالدي، مؤسسة ومديرة المساحة الثقافيّة “مكان”، وأنا، كنّا نبحث عن موقع لإقامة هذه الورشة فيه. وباتفاق سريع إيجابيّ عمليّ مع أبونا عماد الطوال، كاهن الكنيسة هناك، بحثنا ووجدنا مجموعة من البيوت ليقيم فيها الفنانون. وأشخاص من أهل شطنا يساعدوننا ويزوّدوننا بما نحتاج إليه من مهارة ومونة وخبرة وغيرها. وكانت ورشة رائعة وناجحة وسعيدة ونحن الآن نقوم بالتحضير للثانية في الصيف المقبل. وأصبحنا مغرمات ب “شطنا” ونعود إليها بين الفينة والأخرى. وهذه المرّة زرناها في موسم جدّ الزيتون. جاءت جارتنا، ولم نكن قد تعرّفنا إليها بعد. ودعتنا لنشرب معها ومع صاحباتها كوباً من الشاي المطعّم بالزعتر. وجدناهن تحت مجموعة من شجر الزيتون يلتقطن أواخره، حبّات سقطت على التراب، جفّ الماء منها إلاّ أنّها غنيّة بالزيت. بدأ الحديث بأن سألننا عن باقي الفريق الذي نظّم الورشة، وسألت كلّ واحدة منهن عن بعض من الفنانين والفنانات الذين شاركوا من الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا والمغرب والبحرين وكينيا وباكستان والهند والبرازيل والأرجنتين وهولندا وبريطانيا. عززت هذه الورشة بتركيبتها تفاعل الفنانين مع أهل القرية، وتعاون العديد على عدد من الأصعدة. فقد استوحى الفنانون معظم موضوعاتهم من المحيط المباشر وأهله وجوّه وتاريخه والمشهد الطبيعي والاقتصادي والاجتماعي فيه. ولهذا، كانت الأعمال مفهومة ومألوفة بالنسبة لأهل شطنا، واحتفلوا بها كما احتفل صانعوها. فعلى الرغم من الشكل المعاصر جداً لمعظم الأعمال الفنيّة، حيث تراوحت من فيديو وتجهيز فراغيّ واستعراض تفاعليّ ومداخلات في المساحات العامّة، وقد تكون مستوردة في الأسلوب إلاّ أنّها محليّة جدا وشعبيّة جدا في الموضوع. مثلا، تناولت ماكس ميسون البريطانيّة في فيديو وفيلم رسوم متحرّكة موضوعَ كسّارات الحجر في المقلع القريب من شطنا، ومدى العنف الذي تُخضع المحيط له. وأثار وائل حتّر اللبناني الأردني إعجاب جيران المساحة التي عرض فيها عمله بسبب ما أضفاه على المكان من نظافة وترتيب. وشارك العديد من أهل القرية، أطفالا وشباناً وجانب من الكبار، في العرض الأدائي التفاعلي للبرازيليّة إيزابيلا برادو، التي جمعت أهل القرية ووزّعت أقمشة ارتداها المشاركون كالبالونات، وركضوا في شوارع القرية يزرعونها ألوانا برّاقة. بعد أن شربنا الشاي انتقلنا من الحديث الرسميّ مبدئيّا إلى أمور أكثر شخصيّة وحميميّة، ثم تحرّكنا تلقائيّا لنشترك في لمّ حبات الزيتون وتجميعها، جاءت أم عيسىوهي امرأة متقدّمة في العمر، سريعة الحركة، متدفقة في الحديث، وصاحبة روح دعابة لمّاحة. أحلى ما في الأمر أنّ النساء صاحباتنا عرّفننا إليها بأننا الفنانات اللواتي أتين في الصيف، فتذكّرتنا وأبدت ترحيبا حارا بنا. فقد كانت هي وتجربتها التاريخيّة في الطبخ البلديّ موضوع أحد الأعمال الفنيّة. لم تكن هناك أيّ غربة بيننا، فنحن جميعا شريكات في الفعل نفسه: في صنع الفن! . إنّها اللحظات التي يشعر المرء فيها أنّ الفنّ ليس نخبويّاً وليس بعيداً عن العالم بل هو قريب ومتأصّل، ويمكن له أن يكون متحررا من الأقفاص والعروض التجاريّة والسَّلعَنة. هذه هي الظروف التي تقمع الشكوك التي تساورني أحيانا، وتساور الكثير من زميلاتي وزملائي في عالم الفن من جدوى الفن في عالمنا. كان الفن فعلا هو الجسر بيننا في بعد ظهر يوم تشرينيّ تأخر الشتاء فيه ودفع غروب شمسه بنا إلى العودة إلى بيوتنا. |
|
|||||||||||||