العدد 19 - ثقافي
 

حاورها: خالد أبو الخير

حين تلج عالم الروائية ليلى الأطرش، كما يتبدى في أعمالها الروائية التي صدرت في مجلدين في مطلع هذه السنة 2008، يتعين عليك أن تتدثر بملابس واقية تقيك حرائق الكلمات التي كانت شرارتها الأولى «وتشرق غربا"ً، مرورا بـِ"يوم عادي وقصص أخرى" و"امرأة للفصول الخمسة" و"ليلتان وظل امرأة"، وصولا إلى "مرافئ الوهم" وما قد يلي.

لكن الحذر الواجب في حالات أخرى، يغدو غباء، في رقصة النار، وضجيج الأعماق، وكرنفال الشرر، فلا تملك حين تمسسك نارها، الا أن تصير مشعلا للحرائق، مثلها، لما تبقى من قبح وزيف وازدواجية وتمييز ونكران وزخرف.

سِرُّها يكمن في بساطتها وصدقها، فضلا عن تمكنها من صنعتها دون أن تؤثر على انسياب مياه ينابيعها الأولى. وبراكينها الأولى هي أهم ما قد يلحظه عابر في دروب أدبها .

عن تقنياتها، مشوارها، وطموحها، وما أرادت إيصاله بعيدا عن التوقعات والقراءات الصائبة والخاطئة، وأراء النقاد في أدبها، وموقفها من النشر والناشرين، وغير ذلك من محاور، نحاول في هذا «الأتون" أن نقدم الأديبة ليلى الأطرش .. كما هي:  

*: نبدأ من "مرافئ الوهم"، ماذا أضاف أسلوب البرنامج التلفزيوني إلى مسيرتك؟

-: يمكنني القول إن اتخاذ رواية "مرافئ الوهم" شكل برنامج تلفزيوني تجديد وإضافة في الرواية العربية لم يسبقني إليه أحد، منذ لحظة التفكير فيه وحتى الانتهاء من تصويره، مع كشف الكاميرا لمن أمامها وخلفها من الفريق التلفزيوني: المذيعة شادن، والمعدة سلاف والمخرج سيف، والضيف كفاح أبو غليون، ومواجهة المعدة والمقدمة لماضيهما في لندن. ولعل مما يؤكد اختلافها وتميزها الاهتمام النقدي العربي الرصين بها، ومن نقاد كبار، وتقريرها على الطلبة في بعض الجامعات.

*: ثمة من يصنفك ضمن الأدب النسوي، ويتكئ في ذلك على أن محور معظم أعمالك يتناول قضايا المرأة، وأن أي كاتبة لا تستطيع أن تفلت من هذا المحور؟ 

هناك خلط بين رواية عن المرأة والرواية النسوية التي هي صنف أدبي عرف في الغرب وكتبت فيه بعض الروائيات العربيات. وهي تركز على ذات المرأة وجسدها ومحاولة اكتشافه والاستمتاع به، وعلى الرجل الذي يساعدها على هذا الاكتشاف وتفجير أحاسيسها بجسدها، وعادة ما يتم ذلك بمساعدة الرجل الأجنبي الذي يقدس جسد المرأة- في هذه الروايات- بينما يعامله الشرقي كمتاع وشيء. اللافت في هذا النوع من الرواية أن جميع البطلات دون سن الأربعين، حيث الإحساس بالأنوثة والجسد وجماله في ذروته، وهذا مأزق للكاتبة، فلا يمكن أن تكون البطلة في الستين مثلا ولا هم لها إلا جسد يحتاج إلى الترميم وعمليات التجميل رغم أن قدرة الاستمتاع تتخذ طابعا وأحاسيس مختلفة. ويمثل هذا التيار في الوطن العربي روائيات مثل عفاف بطاينة من الأردن، وبتول الخضيري من العراق، وعلوية صبح من لبنان، وهيفاء البيطار من سورية وغيرهن.

ولا يعني هذا بحال أنني ضد هذا الجنس الإبداعي أو حرية الكاتبة فيما تطرحه ما دام مستوفيا لأدواته الإبداعية، فلا أحد يمتلك الحق في أن يفرض على الكاتب موضوعه أو شكل أدبه، فالرواية تسبق النقد وليست تابعة لشروطه ومواصفاته. ولكنني ضد تصنيف رواياتي ضمن الأدب النسوي أو أدب المرأة، وقد أعلنت ذلك دائما، أنا أكتب رواية عربية دون جنسوية وأرفض تماما أن أصنف كاتبة نسوية أو أن تصنف رواياتي كأدب نسوي، فإما أن يكون ما أكتبه أدبا ورواية أو لا يكون. وإذا كانت النظريات النقدية تؤكد على ضرورة ( موت المؤلف)، أي إغفال المؤلف والتعامل مع النص دون اعتبار لجنس ومذهب وفكر وسيرة الكاتب، فأنا أحب أن يعامل ويقيم ما أكتب ضمن هذه المدرسة النقدية.

أما عن كون أعمالي تتناول قضايا المرأة فهذا غير صحيح بالمطلق. المرأة في "وتشرق غربا " بطلة محورية، هناك رجال ولكنهم رجال ما بعد نكبة 48، ولهذا فهم رجال هزموا من دواخل نفوسهم فلن يكونوا أبطالا، أما في "امرأة للفصول الخمسة". فالرجل والمرأة يسيران في خطين دراميين متوازيين تماما. وفي "صهيل المسافات" السارد والبطل المحوري هو المثقف الذي تصطدم أحلامه العربية بالتغيير بالعلم والثقافة مع سيادة الفكر العشائري في "جْديْدة" الغنية ( ترمز للدول العربية الحديثة) والسلفي في "غابرة الفقيرة" (دول التاريخ والحضارة القديمة). فيُنفى سفيرا ومبعدا خوفا على حياته من ممثلي هذين الطرفين. أما في «مرافئ الوهم» فالأبطال نساء ورجال، ولم يسطع حضور أحدهم على الآخر. والرواية الوحيدة التي أبطالها نساء فقط هي "ليلتان وظل امرأة"، وهي رواية تيار وعي تتم في ليلتين تلتقي فيهما شقيقتان بعد غياب طويل، اكتشفت فيه كل منهما أن الأخرى قد أصبحت إنسانة لا تعرفها.

الناقد إبراهيم خليل رأى انك متحررة من نون النسوة وعقدة اضطهاد الرجل للمرأة بينما جادل الناقد نزيه أبو نضال بأنك ترين أن الرجل هو المسؤول عن عقدة اضطهاد المرأة. كيف تفسرين هذا التباين؟

اختلاف النقاد هو اختلاف الرؤية النقدية للرواية، إذا بحث الناقد عن المرأة فقط وظل هاجسه أن كاتبتها امرأة وأنه يريد الولوج إلى عالم النساء المغلق على الرجل، وبعيني الكاتبة، فقد يصل إلى نتيجة كهذه، إنه يتلصص على عالم لا يعرفه، وهو يغفل الشخصيات الأخرى ويبحث عن المرأة فإذا وجدها مقموعة يصدر حكمه بأنني أحمل الرجل وزر معاناتها ويتصور أنني ضد الرجل، أما إذا تعامل مع النص دون هاجس البحث عن النساء فسيجد أنني أحمل المرأة أولا مسؤولية ذاتها، وأنا أعتقد بأن الحقوق لا تعطى، بل تؤخذ. كما أني لا أجمِّل الواقع ولا أفتعل معارك مع الرجال، وبالعكس كثير من النقاد غير الدكتور إبراهيم خليل الذي تابع مشواري منذ البداية أشاروا إلى أنني لو أدنت الرجل فإن ذلك يحدث من خلال التنامي الدرامي للشخصيات وفي سياقها الطبيعي.

أنت صاحبة مشروع استطعت من خلاله أن تكسري التابوهات والمحرمات في كتبك، وبجرأة متميزة، هل استهدفت ذلك؟

-: ليس مشروعي أن أكسر التابوهات. مشروعي أن أكتب رواية مختلفة وأن أجدد في مسيرتي الروائية، ولأنني تأخرت في النشر أصبح مشروعي أن أكتب المغاير وما لم يسبقني إليه أحد، ولهذا فقد آليت على نفسي ألا أخضع لممنوع، وتحررت من الرقيب الداخلي، ولهذا قد يبدو ما أكتبه تجاوزا للتابوهات، وأنا أرفع السقف في كل جديد، ولا يعني هذا أنني لم أدفع الثمن، لقد دفعت ثمنا غاليا لكلمتي المرئية والمكتوبة، ولكنني لست نادمة على شيء، فحين أكتب الرواية أفكر بمنطق الشخصيات الطبيعي دون خوف أو حساب، وأتجاوز المحرمات الدينية والسياسية والاجتماعية. وفي هذا العصر، يقول كل إنسان ما يريد في المجالس الخاصة، وحتى على الفضائيات، فكيف أكمم فمه في الرواية خوفا من الرقيب؟ لقد وصلت مرحلة لم يعد يهمني فيها شيء إلا أن أجد ناشرا لا يخاف من نشر ما أكتب.

*: قلت في أحد حواراتك إن الخطاب الديني مسؤول عما تعانيه الأمة كلها هل لك أن توضحي؟ 

-: الخطاب الديني الذي ساد في العقود الأخيرة هو أساس الردة والتأخر الذي تعيشه المجتمعات العربية، وهو المسؤول الأول والأخير عن تشويه صورة الإسلام ورفض العالم للمسلمين، هو خطاب سلفي مأزوم متعصب عنيف رافض لكل ما هو آخر، دموي، محتكر للحقيقة، ويعتقد أنه يد الله على الأرض ومنوط به محاسبة الجميع. واستغل هذا الخطاب من حكومات عربية شجعته لأسباب مختلفة، وإن التقت عند ضرب الفكر الليبرالي التنويري الذي عجز عن تقديم مشروع قومي وفكري مقنع. وهذه المعطيات دفعت بالفكر السلفي إلى القواعد الجماهيرية بتشجيع الحكومات، وبالعمل الاجتماعي والتنظيم ووضوح الرؤية بالنسبة لهم. وكانت النتيجة تغلغل هذا الفكر حتى بين الشرائح المتعلمة. وقد استغل الانتكاسات العربية المتتالية وقصور الفكر الليبرالي والأوضاع الاقتصادية، وأفلح في ترسيخ خطاب قوامه رفض الآخر والاستشهاد الانتحاري من أجل حياة أفضل في الجنة، بعد أن تعذرت الحياة على الأرض. لقد انتشرت دعاوى الفكر الوهابي والإخوان المسلمين بتسهيل ودعم من الحكومات، فظهرت فرق أخرى تجاوزت هذين الفكرين إلى جنون مطبق واختطفت الدين إلى كهوف تورا بورا، وجُنِّد الصغار في كتاتيب المدارس الدينية ليكونوا نواة انتحاريين لا يتورعون عن القتل فيما يعتقدون أنه يقربهم إلى الجنة!

مشروع مكتبة الأسرة الأردنية، إلى أين وصل، علما بأن كثيرين لم يشاهدوا الكتب، لأن الطبعات نفدت بسرعة، لماذا لا يعاد نشرها؟

لماذا تسألني أنا ؟ اسأل وزارة الثقافة، أنا مجرد عضو في اللجنة الوطنية العليا، صحيح أنني كنت رئيس اللجنة الإعلامية وعضو اللجنة التنفيذية ولكننا لم نتلق حتى كلمة شكر واحدة على هذا المشروع من وزارة الثقافة. مشروع مكتبة الأسرة مثل الأحلام العربية، يبدو ورديا مشرقا ثم يجهض، لم يدعنا أحد للاجتماع، وسمعنا أن هناك نية لتغيير ما في اللجنة الوطنية، طبعا كل مشروع ناجح يكثر آباؤه.. ومشروع مكتبة الأسرة وباتفاق الجميع كان أنجح مشاريع وزارة الثقافة الأردنية في تاريخها كله، وقد عملنا بجهد مضن لمأسسة هذا المشروع مع الوزير السابق: اختيار السلاسل والعناوين ورصد الأموال واختيار الشعار ثم الحملة الإعلامية كلها. ثم ماذا حدث ولماذا لا نجتمع، اسأل أهل الاختصاص في وزارة الثقافة.

*: كنت وراء مشروع نادي القلم PEN، فأين وصل؟

-: في تموز من العام الماضي 2007، أصبح الأردن رسميا عضوا فاعلا وفرعا من نادي القلم العالمي الذي يضم كتابا يمثلون 146 دولة في العالم، وقد عملت جاهدة لتسجيل الفرع وقمنا بإجراءات التسجيل المحلي حسب القانون الأردني لنستطـــيع ممارســة فعاليات ثقافية وتبادل مع كتاب العالم، ونحن في المراحل الأخيرة من التسجــــيل وبعدها سنفتح باب الانتساب والعضوية لمن يرغب من الكتاب والصحفيين والفنانين. و"القلم" هيئة ثقافية عالمية تدافع عن حرية الرأي وقضــــايا النســــاء، وتعزز التــــواصل بين الكاتبات، وتـــدافع عن الكتاب في السجـــون أو مـــن يتعرضون للمساءلة والمـــنع. وهو نافـــذة عالمية لا يجوز أن يبقى الكاتب الأردني بعيدا عن مشهدها.

ليلى الأطرش : كرنفال من الشرر يشعل حرائق ويكسر تابوهات
 
27-Mar-2008
 
العدد 19