العدد 19 - أردني
 

محمود الريماوي وسعد حتر

يبدو أن قمة دمشق الجدلية، التي تلتئم بعد غد السبت وسط تشظ عربي وتحت ظلال وتدخلات إقليمية ودولية، تتجه لتعميق الشروخ في الجسم العربي لا سيما حيال الملفات الأكثر سخونة؛ فلسطين، لبنان والعراق.

في ربع الساعة الأخيرة، رسم لبنان موقفه برفض المشاركة في قمة كان يفترض أن تضع ملفه الشائك على رأس جدول الأعمال. مع ذلك يؤكد أمين عام جامعة الدول العربية المتهالكة أن لبنان "يظل على الأجندة غاب أم حضر" دون أن ينسى وصف الوضع العربي بأنه مشرذم .

فلن يختلف كثيرا بيان دمشق الختامي عن سوابقه، منذ دشّن العرب مؤسسة القمّة في القاهرة عام 1964 ليقررّوا منع إسرائيل من تحويل روافد نهر الأردن إلى النقب، حسبما يستذكر مسؤولون سابقون ودبلوماسيون في عمّان.

لكن خلال العقود الخمسة الماضية، أمعنت إسرائيل في سرقة – ليس فقط المياه- بل سائر الأرض الفلسطينية والإنسان، فضلا عن أجزاء من سورية، لبنان، الأردن ومصر. في الأثناء، استبيح العراق والصومال واشتعلت اضطرابات وحروب داخلية- بعضها من وحي قضية العرب المركزية، فلسطين- في لبنان والأردن.

بينما تصول الجيوش الأميركية في عاصمة الرشيد منذ خمس سنوات، اجتاحت إسرائيل لبنان عدة مرّات، واخترقت في إحداها بيروت عام 1982.

قمّة الصمود والتصدي في بغداد عام 1978 لم تثمر في إسناد "دول المواجهة" عقب خروج مصر عبر بوابة معاهدة كامب ديفيد. وفي صيف 1990، أعطت قمّة القاهرة غطاء دوليا برعاية أميركية لمهاجمة العراق وضرب بنيته ومقدراته.

بندقية منظمة التحرير الفلسطينية تنقّلت بين الساحات العربية طردا وتهجيرا وصولا إلى الخروج البحري الكبير من مرفأ بيروت إلى تونس، تحت حراب إسرائيل والولايات المتحدة.

تتواصل القمم وتتراكم القرارات لإنقاذ ما تبقى من العمل المشترك. وفي كل قمّة ينخفض السقف وتتعمق الانقسامات خلف أبواب مغلقة، تخفيها –دون جدوى- ابتسامات القادة أمام عدسات الإعلام. السوق العربية المشتركة ظلت حبرا على ورق منذ ستة عقود، بينما التحمت أوروبا غير المتجانسة تحت مظلة اتحاد سياسي ونقدي، بدأ باتفاق اقتصادي محدود أواسط القرن الماضي.

الأردن وسائر الدول المتوافقة مع الرؤية السعودية قرّرت تخفيض مستوى تمثيلها في القمّة ردا على رفض سورية إنهاء استعصاء انتخاب رئيس للبنان.

توقعات سابقة ذهبت إلى أن القمة قد لا تعقد في مكانها وزمانها في ظل غياب عدد من القادة العرب. تكهنات أخرى ذهبت إلى ترجيح عقد قمة مصغرة ثُمانية في القاهرة، تضم دول "معسكر الاعتدال" وبالذات في المشرق العربي، كوسيلة ضغط على الدولة المستضيفة. لكن لا يبدو أن أي دولة عربية لا ترغب في تحمل وزر تعطيل قمة دورية مقررة سابقاً، وبات انعقادها جزءا من ملحق تكميلي لميثاق الجامعة العربية.

التحضيرات جرت في أجواء من التكتم والتشكّك مشحونة بالحذر- بخلاف أجواء شبه احتفالية واكبت غالبية القمم السابقة. الانقسام الحالي يذكر بقمم سابقة، مثل إرهاصات قمّة "القاهرة" التي قدحت شرارة "عاصفة الصحراء" بقيادة أميركا ضد العراق عام 1991 في ظل انقسام جلي.

غياب قادة عن القمة ليس أمرا مستجداً، بل هو بالفعل جزء من تاريخ هذه اللقاءات. لكن لانخفاض مستوى تمثيل السعودية، الأردن ومصر دلالات، إذ أن الأمر يختلف هذه المرة: فهناك تباعد سياسي يكاد يلامس حدوداً استراتيجية بين دمشق وعدد كبير من العواصم العربية. الأزمة اللبنانية المديدة أظهرت حجم هذا التباعد، كما أن المقاربة من القضية الفلسطينية واحتلال العراق تعكس عمق التباين. بقاء دولة مؤسسة في الجامعة بلا رئيس منذ أربعة أشهرة، يكشف عمق أزمة تهدد كيان دولة شقيقة، سبق أن شهدت حربا أهلية إقليمية على مدى 15 عاما. وما زال هذا البلد يعاني من عقابيلها، ومن تدخلات خارجية منظورة ومستترة .

لا يقتصر التباعد على المسألة اللبنانية مع حساسيتها وراهنيتها. فهناك الخلاف حول التحالف الاستراتيجي بين دمشق ذات الخطاب القومي ودولة غير عربية هي ايران، تمتلك ملفاً نووياً مثيراً للقلق لدى الدول المجاورة على الأقل . وهي تحتل جزراً عربية للإمارات وترفض التفاوض بشأنها ( دولة الإمارات كانت في مقدمة الدول التي أعربت عن استعدادها للمشاركة في قمة دمشق على مستوى رئيس الدولة). وتمارس إيران نفوذاً متشعباً وهائلاً يتغلغل في نسيج الدولة والمجتمع في العراق المنكوب، علاوة على نفوذها الظاهر لدى حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد في فلسطين. وتتقدم الجمهورية الإسلامية باعتبارها مرجعاً روحياً ومصدر إلهام وتوجيه لمكونات طائفية في مجتمعات عربية عدة بما يمس النسيج الاجتماعي.

دمشق أبدت على لسان مسؤوليها في مناسبات مختلفة تمسكها بهذا الخيار، ورفضها التراجع عنه. لم تتحقق تقديرات ترددت منذ شهور بأن قرب انعقاد القمة في الفيحاء، سيؤذن بإطلاق خطاب وفاقي وإعادة تجسير سياسي مع غالبية الدول العربية وبالذات مع الرياض والقاهرة. زيارة الملك عبدالله الثاني "المفاجئة " إلى دمشق في خريف العام الماضي، صبّت في هذا الاتجاه. لكن بينما سعت الزيارة الملكية إلى ترطيب العلاقات الثنائية، لم تظهر بوادر من عاصمة الأمويين حيال الملفات الثنائية العالقة أو لجهة تحسن أجواء التحضيرات للقمة.

سبق لمسؤولين سوريين أن أعلنوا عدم استعداد دمشق "للتضحية بمصالحها الحيوية (في لبنان) مقابل انعقاد القمة ". لعل المقصود أن المناسبة آنية وعابرة، بينما المصالح "دائمة وثابتة" . ذلك يظهر مدى حجم وعمق الخلاف، بما يعيد الى الأذهان الانقسامات العربية في منتصف القرن الماضي بين معسكرين وما خلفته من تداعيات. رغم ان دمشق تبدو شبه منفردة في مواقفها، وتلقى تفهما لا أكثر من دولتين عربيتين. بذلك يتعرض "النظام العربي" لهزة كبيرة في ظل استقواء بالخارج يشمل الجميع تقريباً وإن بدرجات متفاوتة.

المملكة العربية السعودية استبقت القمة بطي صفحة خلافاتها مع دولة قطر. ونشطت دبلوماسيتها في الاتصال بدول عربية منها الجزائر أخيراً ، إذ تم الاتفاق على تنسيق المواقف حيال القمة المنتظرة .

القضية الفلسطينية تظل حاضرة ولكن بعد طغيان خلاف حماس مع السلطة الفلسطينية على قضية إنهاء الاحتلال ،واستئثار هذا الخلاف بالاهتمام في ظل الرعاية التي تتمتع بها الحركة في دمشق ، ومع مبادرة يمنية أفلحت في إعادة الحوار بين الفصائل وحماس دون إعادة اللحمة لمؤسسات السلطة ووقف تداعيات "انقلاب حماس "في حزيران الماضي، ومواجهة التمدد الاستيطاني، والعبث الاسرائيلي بمسار التفاوض.

واضح أن القمة في سبيلها للانعقاد "بمن حضر"، وهو تعبير استخدمته صحف سورية الرسمية. فيما لوّح رئيس الدبلوماسية السورية وليد المعلم بأن " القمة قد تسحب مبادرة السلام العربية "، التي ولدت من رحم السعودية في قمة بيروت عام 2002. وجددت قمة الرياض التأكيد عليها. تستحق المبادرة النظر بها والدعوة لتفعيلها بصورة جدية، في ضوء التنصل الاسرائيلي منها ومحاولات إفراغها من مضمونها. غير أن التلويح بهذا الأمر في اجواءالخلافات الناشئة بين دمشق والرياض خصوصاً ، قد يحمل على التأويل بالسعي للتخلي عن مبادرة الرياض.

في هذه الظروف قد تسعى الدولة المضيفة، كما هو مقدر لتفادي فشل القمة، لإصدار قرارات غير مثيرة للجدل ،تعكس الحد الأدنى من التوافق، بالاكتفاء بترديد بعض العموميات، بشأن لبنان والعراق وفلسطين والسودان والصومال، بينما السياسات الفعلية لهذه الدولة او تلك تدار في مكان آخر، بأجندات لا تتطابق بالضرورة مع ما هو معلن .

غزة ولبنان تتنازعان على صدارة جدول الأعمال: قمة “بمن حضر”.. أجندات متباعدة تستحضر انقسامات قرن مضى
 
27-Mar-2008
 
العدد 19