العدد 18 - اقليمي
 

سليم القانوني

الطلب الذي تقدم به قبل أيام المدعي العام التركي للمحكمة الدستورية في أنقرة لحظر حزب العدالة والتنمية، يشكل حلقة جديدة ومفاجئة من حلقات الصراع بين الحزب و«المؤسسة العلمانية» التي تضم الجيش والقضاء والجامعات فضلاً عن عشرات الهيئات الاجتماعية والتيارات السياسية.

معلوم أن حزب العدالة بات يحتل منذ العام الماضي، مواقع رئيسية في الدولة ابتداءً بالغالبية البرلمانية مروراً برئاسة الحكومة وانتهاء برئاسة الجمهورية.

وقد حاول الجيش الذي يهيمن على «مجلس الأمن القومي»، تفادي انتخاب عبدالله غول رئيساً للجمهورية عدة مرات،عبر مواجهات وتأويلات دستورية، لكن الحزب نجح أخيراً في تصعيد غول كأول رئيس ذي نزعة إسلامية الى الموقع الأول في جمهورية أتاتورك العلمانية، وقام بتجميد عضويته في الحزب. وقد استهل الرئيس عهده بخطاب للأمة،عبر فيه عن تمسكه من موقعه بالخيار العلماني للدولة. غير أن التعديلات التي طلبها حزب العدالة من البرلمان بخصوص الحجاب في الجامعات، قد أثارت مخاوف من نزعة لأسلمة الحياة العامة.سبب هذه المحاذير أن الحزب اقتصر على تقديم هذا التعديل دون سواه من مطالب.مر التعديل الذي كان محقاً بحد ذاته، لكن "الشق الآخر" من الأمة، اعتبر ما جرى وفي غيبة تعديلات دستورية أخرى محاولة لفرض لون أيديولوجي.

سبق للسلطات التركية أن حظرت نشاط حزبي الرفاه والفضيلة الإسلاميين عامي ا998 و2001 على التوالي، وكان أردوغان رئيس الوزراء الحالي، وعبدالله غول رئيس الجمهورية في عداد أعضاء الحزبين.

المفارقة أن حزب العدالة والتنمية قام على أنقاض الحزبين المذكورين، ونال الترخيص قبل ست سنوات، ومحاولة حظره هذه الأيام تبدو انتقاماً سياسياً، إن لم يفسر الأمر على أنه محاولة للقيام بانقلاب ناعم (قانوني) بعدما سدت الطرق أمام الجيش للقيام بانقلاب عسكري كما عليه الحال طيلة عقود من القرن الماضي. ذلك يتصل بالمسعى التركي للانضمام الى الإتحاد الأوروبي وما يضعه الاتحاد من معايير.. ليس من بينها جواز القيام بانقلاب عسكري لتحقيق غايات سياسية، حتى لو وصفت هذه الغايات بأنها دستورية.ينص الدستور التركي على أن الجيش يحمي علمانية الدولة.

يطالب المدعي العام بحظر حزب العدالة وحرمان أعضائه من مزاولة النشاط السياسي.بما يعني تنحية رئيسي الجمهورية والحكومة عن موقعيهما، وحل البرلمان الذي يشكل أعضاء الحزب أغلبيته.ذلك لو تحقق يفتح الباب أمام نزاع أهلي، وقد يؤذن بظهور موجات أصولية، في حال حرمان حزب معتدل يعترف بالعلمانية وحظي بتزكية شعبية واسعة من حرية الحركة والحضور في الفضاء العام.

التحدي الماثل أمام «السلطة الموازية» ممثلة خصوصاً بالقيادات العسكرية، أن مفهوم العلمانية واسع وقابل للتأويل، بخلاف «تهديد أمن البلاد أو حماية وحدة أراضيها» مثلاً. فقد وافق المستوى السياسي للدولة ممثلاً برئيسي الجمهورية والحكومة،على تجريد المزيد من الحملات العسكرية على حزب العمال الكردي في إقليم كردستان شمالي العراق،في العمليات التي عرفت باسم حملة «الشمس». لم تظهر فروق تذكر في تقييم هذا الأمر بين السلطتين السياسية والعسكرية. علاوة على مسائل أخرى تتعلق بالسياسة الخارجية كالسعي للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، أو حتى التباينات في الرؤى مع الولايات المتحدة التي لم تقترن بصعود حزب العدالة (رفضت تركيا الانضمام للحملة الأميركية على العراق قبل خمس سنوات في عهد الرئيس السابق نجدت سيزير).

رئيس الحكومة، أردوغان، صرح غير مرة بأنه يريد لبلاده علمانية بريطانية لا فرنسية. لا تحظر الأنظمة البريطانية استخدام رموز دينية، ولا تتدخل في اختيارات الأفراد لثيابهم وهو ما يفسر لجوء شخصيات دينية الى بريطانيا من الشرق الأوسط، وإفريفيا، وبلدان أخرى.

يذكر أن هناك اعتقاداً في تركيا بأن ثمة «دولة عميقة» تضم أفراداً ومنظمات، وتعمل تحت الأرض ومهمتها حماية الدولة والنظام من أي تحديات داخلية أو المساس بالنظام العلماني أو أي تهديدات خارجية. وقد أشار الروائي التركي أوهان باموق، الحائز على نوبل الى هذه الدولة بصورة رمزية في روايته «الحياة الجديدة». باموق الذي يقيم في الولايات المتحدة مدرساً في إحدى جامعاتها، يعرف بعلمانيته ومناوأته للأصولية، ينسب اليه وصفه حزب العدالة بأنه «الأكثر ديمقراطية في البلاد».

الدعوى القضائية تنتظر حتى الاثنين المقبل للبت بإمكانية النظر بها. وقد سخر غول وأردوغان من الدعوى باعتبارها «هزء بالأمة والإرادة الوطنية». ذلك لن يمنع من مواصلة المحكمة الدستورية النظر بها، علماً أن هذه المحكمة ما زالت تعتبر من قلاع العلمانيين.

وقد شرع رموز الحزب في حشد لقاءات جماهيرية مع محازبيهم للتنديد بالدعوى القضائية، وتشكيل قوة ضغط،وهو ما يسهل على الحزب إنجازه بعدما خاض انتخابات مبكرة العام الماضي، كرست حضوره بوصفه أحد أقوى الأحزاب إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

الخشية من سيناريو يتم فيه تحشيد متبادل للشارع، يؤدي الى المزيد من الاصطفافات والاحتكاكات،وينذر بتدخل الجيش «لإعادة الأمن والسكينة وفرض النظام العام» والإيحاء خلال ذلك أن صعود حزب العدالة قد أربك الموازين الاجتماعية، وشكًل مساساً بالسلم الأهلي، مع إنكار حدوث انقلاب عسكري..

يفترض أن الخيار الديمقراطي نضج في تركيا،ولم يعد في الوسع العودة الى الوراء إلى عهود الانقلابات، ولا لإحلال موجة أصولية دينية أو قومية تنتهك الدستور والسلام الاجتماعي مرة باسم الدين وطوراً باسم العلمانية.

سوى ذلك، فإن التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، الذي شهدته بلاد الأناضول في العقد الأخير والذي زاد من وزنها الإقليمي، يصبح مهدداً.. ويهدد معه بالتحاق تركيا الحديثة للعالم الثالث.

دعوى قضائية لتنحية رئيسي الجمهورية والحكومة : الجيش التركي لم “يهضم” بعد حزب العدالة
 
20-Mar-2008
 
العدد 18