العدد 18 - ثقافي
 

حاوره: فايز الصياغ وحسين نشوان

يرى المفكر العربي عزمي بشارة أن كتابه «في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي» محاولة لإعادة صياغة أسئلة الفكر القومي العربي، بربطه بقضايا المواطنة، وأن يعي نقاط ضعفه ونقاط قوته. في هذا الإطار، يقول لـ«ے» إن لا بديل للقومية العربية عن مواجهة بنى ما قبل الحداثة، ومواجهة تسييس الهويات ما قبل القومية.

ويتناول بشارة في حديثه جوانب مشروعه الفكري، ورؤيته للوحدة العربية، والحدود الفاصلة بين فكرة القومية والتأطير الأيديولوجي.

لماذا "المسألة العربية"، وليس "القضية العربية"؟ وهل العلاقة بين المسألة العربية والمسألة الفلسطينية هي استعادة لمقولات (القضية المركزية)، و(فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين)، أم هي استعادة للاستعارة المجازية المعروفة عن "المسألة الشرقية" و"الرجل المريض"؟

رغبت فقط بتمييز "المسألة العربية" عن التداعيات التي تتركها في الذهن صياغات مثل "القضايا العربية" أو "القضية العربية". وطبعا كنت على وعي بترجمة "المسألة الشرقية" عن الانجليزية، وذكرت ذلك. ولكن هذا ليس هدفي. البحث النظري "العلمي" في الكتاب يحاول أن يثبت علاقة بين القضية القومية كقضية العروبة والهوية العربية, والتقسيم الحدودي الاستعماري وقضية الهويات المحلية الطائفية والعشائرية وصعوبة بناء الأمة في كل دولة والاقتصاد الريعي. وأخيرا علاقة كل هذا مع طرح الديمقراطية. دون ذلك لا تكون قضية الديمقراطية أكثر من تبشير استعماري أو تنويري، أي قضية فوقية، وعظية، لا علاقة لها بالبنى والقوى الاجتماعية القائمة وبنية الدولة وبما يجري فعلا.

هل يؤسس الكتاب لمقولات أو برامج ، لإعلان مشروع تنويري، أم يسعى إلى تأسيس حزب سياسي، وأين يقع ذلك في إطار السياق التاريخي للفكر العربي؟

. إنه محاولة لإعادة صياغة أسئلة الفكر القومي العربي، بربطه بقضايا المواطنة، وأن يعي نقاط ضعفه من جهة، ونقاط قوته من جهة أخرى. نقطة القوة برأيي انه لا بديل للقومية العربية عن مواجهة بنى ما قبل الحداثة، وفي مواجهة تسييس الهويات ما قبل القومية. ونقطة ضعفه غياب نظرية الدولة وتحوله إلى إيديولوجيا تبريرية أو حتى نقدية. القومية كإيديولوجية هي حالة تعويضية عن عدم تحقق القومية في الدولة، أي في السياسة الفعلية. كلما ابتعدت عن التحقق الدولة ازدادت إيديولوجية، وكلما ازدادت القومية إيديولوجيةً قلت تسيّساً. والمحاولة تجري ضمن مشروع فكري بدا بكتاب "المجتمع المدني"، وهو كتاب في تاريخ الفكر السياسي، ويستمر الآن في هذا الكتاب، وما سوف يتبعه ككتاب ثالث. طبعا بين هذا وذاك كتبت بالمنهج الحداثي التنويري نفسه كتبا أخرى من "يهودية الدولة حتى شارون" و"النهضة المعاقة" وكتبا أدبية. ولكن هذه الكتب الثلاثة بما فيها هذا الكتاب تشكل مشروعا فكريا يجمع بين القومية العربية والفكرة الديمقراطية (وفكرة المواطنة وهي عندي تجمع بين الديمقراطية والحقوق اللبرالية السياسية والحقوق الاجتماعية في صراع مع اللبرالية الاقتصادية) واليسار، بمعنى إرث العدالة الاجتماعية. ولمن يريد فعلا سياسيا، اعتقد أن هذا هو التحدي. كيف تكون ديمقراطيا ضد التدخل الاستعماري وضد الديكتاتورية في الوقت ذاته، وأن تتمسك بالقومية العربية وتعرف أهميتها التاريخية والثقافية والسياسة كهوية العرب الحداثية وكجسر مع الحضارة الإسلامية، ولا تتخلى عن فكرة العدالة الاجتماعية رغم انهيار الدول الاشتراكية.

مدى تأثير المفاهيم الأوروبية/الغربية في تفكير عزمي بشارة لجهة تطور مفهوم القومية والديمقراطية والعلاقة بين العقلانية والعدالة، كما هي في أعمال بنديكت أندرسون، إرنست غلنر، وإريك هوبزباوم؟

وأنا أضيف لك أيضا كارل ماركس وإيمانويل كانت وهيغل وماكس فيبر، ومدرسة فرانكفورت النقدية طبعا، طبعا. وتأثيرهم هائل. أنا تلميذ هذه الأفكار الكبرى والأسئلة التي طرحتها، وتعثر الأجوبة، وفي صراع مع التفسيرات الغيبية في تحويل بعض هؤلاء إلى ديانات. فالتعصب لمنهج علمي بعينه هو عكس كلمة منهج علمي. ولن أتمكن من مراجعة تأثير كل منهم على حدة. وأترك هذا لنقاد الكتاب. ولا شك أن الفكرة القومية فكرة غربية، مثل فكرة المجتمع في مقابل الجماعة، والمجتمع المدني وحتى الدولة الحديثة. طبعا هي سياقات غربية ما لبثت أن توسعت مع انتشار الحداثة. لا يمكن أبدا استنساخ نشوء العملية الأصلية لنشوء القومية والديمقراطية. وليس ضروريا أن يحصل ذلك. والتحدي هو في العلاقة بين النموذج النظري والحالات الخاصة. فمثلا نقد هوبزباوم وحتى غلنر للقومية يفترض حالة انغلوسكسونية تدعي التحرر من الفكرة مع أنها متحررة فقط من الأيديولوجيا لأنها القومية متحققة في الدولة بشكل طبيعي ومبكر ودون ثورات. قومية ما قبل مرحلة القوميات، كما في القارة. ومن هنا هذا الاستعلاء تجاه القومية الأوروبية خاصة في وسط أوروبا. ولكن الانجليز والأميركيين يبدون مظاهر شوفينية قومية إثنية ثقافية في كل أزمة، لا تقل عن مظاهر القومية المتطرفة في وسط أوروبا. نحن نرى الأمور بتعقيد اكبر من هنا. نحن نشاركهم نقد القومية كأيدولوجية خطيرة، ولكن الفرق أن ندرك مخاطر التخلي عنها وتفكيكها قبل تحققها عربيا مما يؤدي إلى ما قبل الحداثة، وليس ما بعد الحداثة. الجماعة المتخيلة حقيقية طبعا، بالضبط كما أن وسائل الاتصال حقيقية، وإلا فإن الجماعات المتخيلة بدلا عنها هي الطائفة غير المحددة في المكان.

ما هي الحدود الفاصلة بين فكرة القومية والتأطير الآيديولوجي؟

سؤال هام. لا بد في حالة الفشل في التحقق في الدولة واستمرار وجود الدافع القومي بسبب وجود الجماعة المتخيلة كإطار يدفع نحو السيادة، وعدم تطور أطر بديلة عبر المواطنة الكاملة، ونحن نرى أن الجرح القومي ملتهب ولا ينجب الا بدائل مفرطة، ولم تنتج الدول المحلية في إقامة قوميات محلية بديلة ولا أمم مواطنين، فلا بد من التأطير على أساس سياسي. ولكن لا يجوز في هذا الإطار أن تعتبر القومية هي الإيديولوجية التي يقوم عليها التنظيم. التنظيم القومي يؤمن ويرى وظيفة وضرورة القومية العربية. ولكن هذه وحدها قد تدهوره إلى فكر فاشي أو تبرير لأنظمة أو غيره. على الفكر القومي أن يعلن عن نفسه في النظرية والممارسة هل هو فكر قومي ديمقراطي أم لا، هل يدفع باتجاه العدالة الاجتماعية ضد الخصخصة للـ"حراميِّة" الجدد، والنوفوريش وضد رأسمالية الدولة الفاسدة؟ أم لا؟ لم يعد بإمكان التنظيم القومي أن يعفي نفسه من الإجابة عن أسئلة المواطنة والديمقراطية السياسية والسياسة الاقتصادية وعلاقة الدين بالدولة وسياسة الرفاه والتعليم وغيرها.

يسعى الخطاب إلى الوصول إلى "الجماهير" إلا أن الكتاب يكتنفه الغموض في المصطلح والمفاهيم، مما يجعل منه خطابا نخبويا (مع أن الكثير من مفاهيمه وعباراته يستعصي حتى على بعض "النخبة").

الحقيقة أني لا أرى ذلك. ولا أتفق مع العديد من الإخوة الذين ادعوا ذلك؟ طبعا الكتاب ليس شعبيا بالمعنى المتداول، ولا جماهيريا، ولا أسعى أن يكون. وهو أيضا ليس كتابا في فن الطبخ، ولا قصة خفيفة. مع أني أصل إلى الجماهير بلغة مفهومة، كما هو معروف، بوسائل أخرى. قابلت الكثير من المثقفين الذي قرؤوه وفهمت من حوارهم معي أنهم فهموه. في بعض الأحيان تطلق التهمة كسلا أو لصنع صورة نخبوية للمؤلف عند من يعتقدون أن كلمة نخبة هي كلمة سيئة. العلم والثقافة قد يكونا نخبويين أحيانا ولا بأس بذلك ما دام ليس موقفا بل ناجما عن المضمون. طبعا هنالك توقع من الكاتب المعروف في سياقات أخرى وفي الإعلام أن تكون كتابته مفهومة لكل الناس الذين يفهمونه في التلفزيون. هذا يصح بالنسبة لمقالي السياسي ولمقابلاتي وبعض كتبي أيضا. ولكن بالنسبة لكتاب اختصاص، وهذا كتاب اختصاص، لا يفترض أن يكون مفهوما لكل الناس. المصيبة أن من ينتقد بهذا الشكل يقدس أحيانا فلاسفة لم يقرا لهم بل قرأ عنهم، وإذا قراهم لا يفهمهم. ومع ذلك يتهم من يختلف معه بالرأي انه غير مفهوم.

الكتاب مفهوم لذوي الاختصاص، وللمثقف المتوسط إذا بذل جهدا. والأفكار تصل إلى الناس عبر وسطاء عديدين. عادة يقبل ذلك مثقفو الأيديولوجيات، يقبلون أن تمر إليهم أفكار إيديولوجيين يساريين أو أصوليين دينيين عبر وسطاء مثل الكراسات والندوات والمحاضرات والمدرسة والجامعة وغيرها. وهذا الكتاب يدعي انه بحثي وعلمي ومنطقي ومتورط حتى النهاية بأسئلة تشغل الناس، ولا بد أن يصل إلى الناس عبر الحوار والنقد والمثقفين والمسَّسين وغيرهم.

ثمة العديد من المراكز البحثية الغربية التي تتمحور دراساتها واهتماماتها حول موضوع الديمقراطية، هل هناك علاقة بين المشروع/ الكتاب وأنشطة هذه المراكز التي اتخذت من أوروبا مقرا لها؟

طبعا لا علاقة إطلاقا. الكتاب برمته نقد جذري لمواقف ومنطلقات طرح الديمقراطية دون تسييس ودون القضية القومية والقضايا الأخرى التي تشغل الناس. هو النقيض الديمقراطي لهذه المراكز ونظرياتها. أو هكذا أريده أن يكون. ليس لدي مانع من اللقاء مع أبحاث علمية تصدر في مراكز لا اتفق مع منطلقاتها، إذا كان البحث جديا فهو جدي، ويجب أخذه بعين الاعتبار بغض النظر عن منطلقات صاحبه. أنا ادعي أن الديمقراطية يجب أن تكون أجندة وطنية، ومقياس موقفي من المراكز هو عملها في إطار أو خارج إطار الأجندات الوطنية.

في الكتاب تأويلات تقترب من التعريفات الفقهية لموضوعة التدين، وهو ما يمكن أن يثير الكثير من الأسئلة التي تخرج الدراسة عن سياقاتها العلمية والفكرية؟

موضوعة التدين موضوعة تستحق البحث علميا. وخلافا للدين ومقولاته موضوعة التدين خاضعة للعقل. إنها مسألة ممارسة اجتماعية. والممارسة الاجتماعية ووظيفتها ومعناها كلها تخضع للبحث وللعقل. وهذا موضوع كتابي القادم. ولكني بالطبع لم أقدم تعريفات فقهية للتدين. وكونك لا تتفق مع الفقه أو أنماط التدين لا يعني أنها غير قائمة ومؤثرة اجتماعيا وتستحق الدراسة. في الكتاب فصل واحد يتعلق بالعلاقة بين العروبة والإسلام، وهو يشمل أيضا تمييزات بين العروبة القديمة كهوية وبين القومية العربية الحديثة. وكان لا بد من هذا الفصل، مع أن الكتاب الشامل الذي سيصدر سيكون عن موضوع التدين.

هناك استعارات تقارب بين موضوع الوحدة مع الاتحاد الأوروبي الذي يقوم على الاتفاقات الاقتصادية والنقد والسياسات. ألا يتقاطع ذلك مع فكرة الدولة (الأمة) التي تشترك في التاريخ واللغة و"المصير المشترك"؟

طبعا تتقاطع. ولكن الأمر الأساسي هو الواقعية. فهي التي دفعتنا إلى النظر إلى هذا النموذج، لأن نموذج توحيد ألمانيا وايطاليا الذي تأثرت به القومية العربية وغيرها من قوميات العالم الثالث، لم يعد ساريا في عصر الدولة القطرية الحديثة ومفهوم السيادة والقانون الدولي. ونحن نرى إن الوحدة العربية يجب أن تطرح بصيغة شبيهة لأنها تتضمن الارتقاء من الدولة إلى الاتحاد بواسطة الديمقراطية والقرار الجماهيري وبعد وحدة اقتصادية تقرب بين بنى الدول في ظل نخب متنورة. وهي تحقق التوق القومي العربي الأساسي وهو زوال الحدود دون سيطرة دولة على ثروات دولة أخرى بعد، ودون القفز مباشرة من السيادة المحلية إلى هيمنة دول أخرى.

عزمي بشارة لـ “السّجل” حول “مقدمة لبيان ديمقراطي..” : لا بأس بالنخبوية.. فالعلم والثقافة نخبويان أيضاً
 
20-Mar-2008
 
العدد 18