العدد 17 - بورتريه | ||||||||||||||
خالد أبو الخير
يخال أن الصورة ناقصة فليهب الجلسات كفنان أصيل بحثاً عن تفصيل كبر أو صغر ليكملها، دون أن يدور بخلده من فرط انكبابه على صياغة رؤياه الفسيفسائية، أن الصورة تكتمل رغم ما قد يعتريها من نقص.. يكون أحياناً خلاقاً. تحدر عدنان أبو عودة المولود عام 1933 من عائلة تمتهن صناعة الصابون النابلسي الشهير، أصرت على أن يكمل تعليمه، بعد أن أظهر نبوغاً دراسياً. وكان لأمه الدور الأبرز، فقد وقفت بقوة ضد رغبته بالاستمرار في العمل ميكانيكيا.وحين سنحت له فرصة العودة الى المدينة التي تركها شاباَ بعد 29 عاما من احتلالها،اختار أن يزور قبر تلك الأم. وأطلق تصريحه الشهير "عشت في المنفى كل تلك السنين ولم أستطع زيارة القبر"، الذي استغل مدخلا للهجوم عليه: أي منفى وقد صرت رئيسا للديوأن الملكي؟!". "هكذا فُسر بكائي على قبر أمي"، يقول أبو عودة متأسيا. انتمى إبان سنوات دراسته الثانوية في نابلس وفي معهد المعلمين بعمان لحزب التحرير. وتركه إبان أحداث حلف بغداد عام 1955. الصدمة الثقافية التي خلفها ابتعاثه إلى بريطانيا في العام ذاته، أثرت فيه كثيرا. وبعيد عودته إلى الوطن انتمى إلى الحزب الشيوعي واستمر فيه ثلاث سنوات إلى أن كانت صدمته بأخبار القتل والسحل التي حدثت بعد ثورة 1958 في العراق، فقرر الانسحاب من الحزب بحثاً عن فكر أو انتماء. يعزى إلى زميله في التدريس بمدرسة السلط الثانوية محمد رسول الكيلاني أنه جذبه للعمل في المخابرات، مطلع الستينات. عند وقوع حرب 1967 كان أبو عودة مبتعثا لدورة مخابرات في لندن، وإبان أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 شارك الضابط برتبة رائد في جهاز المخابرات في الحكومة العسكرية التي تشكلت آنذاك، كوزير للاعلام ، وعاد مجددا في حكومة احمد طوقان التي تشكلت في العام نفسه ، ثم في حكومة وصفي في العام 1971، ما جعله هدفا للحرب الكلامية التي شنتها منظمات فدائية ضده. وهي الحقيبة ذاتها التي تولاها في حكومات لاحقة، كان آخرها في العام 1984. "بنى نفسه بنفسه، وحياته كتاب مفتوح، ليس لديه ما يخبئه،" حسبما يراه الكاتب الصحفي خالد محادين الذي زامله لسنوات.يصفه محادين بأنه "وزير إعلام ناجح ، موضع احترام وتقدير من عملوا معه. اتهموه بالقمع الصحفي، ولكن في ضوء ما نراه اليوم نقول إن أبو عودة كان "أبو بكر الصديق"". ويضيف "لم يكن يتردد في إبداء رأيه في حضرة الملك الراحل الحسين، لا يجامل ولا يحابي، وكان الملك يستمع ويرتاح له". وعرف عن أبو عودة أنه كان يكتب خطابات الملك الحسين، وغداة أحداث 1989 كتب على الطائرة التي أقلت الملك الراحل والوفد المرافق له من بوسطن إلى عمان الخطاب المتميز الى الشعب الذي جاء فيه ما فحواه: "أنا لا ألومك لأنك غضبت أو زعلت، وحتى لو لم تغضب سأقول إن هناك شيئا ما خطأ، لكنني ألومك على طريقة تعبيرك بالتحطيم والتكسير لإنجازات وطنية". بقيت هناك مسافة بين أبوعودة والبورجوازية الفلسطينية التي لم تهنئه حين صار رئيسا للديوان الملكي. يرى سياسي عاصر تلك السنوات "بأن البورجوازية استكثرت عليه أن يصير رئيسا للديوان وهو ابن عائلة متواضعة". حين كان مستشاراً سياسيا للملك الراحل الحسين كان الدينمو الذي وقف وراء الميثاق الوطني. صراحته وبديهته الحاضرة كانت تتبدى أيضا أمام الزعماء العرب، فأثناء إحدى الزيارات بمعية الراحل الحسين إلى دمشق، أخذ الرئيس الراحل حافظ الأسد ينتقد ياسر عرفات.. ثم أنتقل لانتقاد الفلسطينيين قائلا: "هؤلاء الفلسطينيون صاروا وكلاء لإسرائيل ويدخنون مارلبورو أحمر". فاستأذن أبو عودة الملك بالحديث وقال:" فخامة الرئيس هذه التقارير التي تستمد منها معلوماتك يبدو انها ليست دقيقة، تقاريري أدق وهي من شقيقاتي وأولاد شقيقاتي، فحالهم صعبة والمارلبورو الأحمر الذي ذكرته فخامتك يعني أنهم بدأوا يرون الدنيا مصطبغة بلون الدم".أنتبه الأسد، وحين ودع أبو عودة في المطار عانقه قائلا: "أخ عدنان أرجو ألا تسيء فهمي". في بغداد بعد اجتياح الجيش العراقي الكويت كان أبو عودة ضمن وفد رافق الراحل الحسين إلى عاصمة الرشيد وقد ابدى رأيه أمام مسؤولين عراقيين بحتمية وقوع الحرب واستحالة تحويل العراق الى فيتنام اخرى ، على عكس ما كانوا يجادلون به. طبعا وصل الكلام الى صدام. في الاجتماع الذي تلا، وحضره صدام والملك الحسين، نادى الرئيس العراقي ضابطا كان مسؤول العمليات في الكويت وقال له: " هات احكي للجماعة شلون يصير لو انسحبنا من الكويت؟" فقال الضابط: "والله يا سيدي يهاجمك الجيش العراقي". يقول أبو عودة "عرفت أن الحديث موجه لي، فاستأذنت جلالة الملك بالحديث وقلت: بحكم عملي أرى دبلوماسيين وأكاديميين ومفكرين واعلاميين، وقد رأيتهم جميعا الأسبوع الماضي، وعليك أن تتخيل يا سيادة الرئيس ماذا قالوا، وأنا متأسف أن أقول إنني لم أستطع إقناع أحد بالمنطق الذي سمعته من المسؤولين العراقيين". فقال صدام : "أخ عدنان أنت لم تر أحدا من الذين ذكرت، لكنك تريد أن تسألني. واذا سألوك فقل لهم إسرائيل ضمت الجولان ونحن ضممنا الكويت". أجاب أبو عودة بعد أن استعاد زمام المبادرة: "شتان ما بين الاثنين، الكويت دولة ذات سيادة والجولان أرض محتلة ". يستطرد أبو عودة قائلا: "عندها أحسست أنني أخطأت لأنني كنت أحادثه أمام حاشيته ضاربا عرض الحائط بوصية ميكافيلي في "الأمير"، فاكفهر وجه صدام، لكنه تدارك أعصابه وخرج بمعية الملك".عندها مال الأمير الراحل زيد بن شاكر على أبو عودة وهمس في أذنه: "بس تصل عمان اذبح خاروفين". حادثة أخرى في دمشق عشية مؤتمر مدريد؛ فقد خاطبه نائب الرئيس عبد الحليم خدام بلهجة غمز فيها من قناة علاقة الاردن بالأميركيين: "باعتبارك خبيرا في الشؤون الأميركية بدنا نسمع رأيك يا أبو السعيد بالسياسة الأميركية". فأجابه: "والله يا أبو جمال، بعد حفر الباطن، اللي مثلي بيجوا عندك علشان يتعلموا السياسة الأميركية". في مطلع الألفية الجديدة، أثار كتاب أبوعودة عن الأردنيين من أصل فلسطيني، هجوما شرسا ضده، باعتباره من المطالبين بما وصفه بالحقوق المنقوصة، دفعه للاستقالة من منصبه كمستشار سياسي للملك. ويرى أبو عودة أن كتابه جاء في إطار ما أسماه الدبلوماسية الوقائية، "قرأوني غلط.. وكان مفترضا أن يعطوني جائزة على الكتاب". من الذين انتقدوه زميله ومدير المخابرات السابق نذير رشيد الذي اعتبره مثقفا وذكيا ويخدم وظيفته باحتراف وكفاءة، دون أي اعتبار للمبدأ" واتهمه بأنه "غير مبدأه حين استضافته قناة الجزيرة في برنامج زيارة خاصة"، وهي حلقات أثارت السخط عليه، وكان اقسى ما كتب ضده من وزير الاعلام الاسبق والبعثي ومن ثم الفتحاوي المقرب من ياسر عرفات سابقا صالح القلاب الذي وصفه في مقالة له "كأنه طاؤوس يمشي على رؤوس اصابعه". ووصل الأمر إلى القضاء عندما رفع أشخاص شكوى قضائية على أبو عودة بدعوى إطالة اللسان، ومثل أمام محكمة أمن الدولة. ترى شخصية إعلامية آثرت عدم ذكر اسمها "أن الناس أساءت فهم أبو عودة". "من ليس له عدو فهو تافه" يقول أبو عودة، ويستطرد قابضا على عصاه مستئذنا برحيل: "يا ريتني طلعت ميكانيكي"، وتارة أخرى "لو لم أكن سياسياً لكنت أكاديميا". وفي رأيه أن الصورة ناقصة وفي رأينا أن النقص أحيانا يكملها.
|
|
|||||||||||||