العدد 17 - أردني | ||||||||||||||
سليمان البزور تشتبك النقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني في معركة كلامية، استعرت منذ مطلع الألفية الثالثة مع مضاعفة أعداد الهيئات غير الحكومية العاملة في المملكة. ويوجّه نقابيون وقياداتهم سيلاً من الاتهامات لمؤسسات مجتمع مدني بالعمالة للغرب و«الولاء لمن يدفع أكثر» تبعاً لمصادر التمويل الأجنبي، بينما يدافع نشطاء في تلك المؤسسات عن مواقفهم، ويتهمون النقابات «بازدواجية السلوك بين نقباء يرفضون التعامل معهم ونقابيين يشاركون بفعالية في أنشطتهم». نتيجة للاتهامات المتبادلة بين النقابات و«المدني»، أعلنت الأولى عزمها إنشاء مركز دراسات وأبحاث. في محاولة للعب دور موازٍ «للمدني»، لكن المشروع راوح مكانه ست سنوات ، وبقي مجّرد حبر على ورق. نقيب المهندسين، وائل السقا، يرى أن مشروع المركز «تفرق دمه بين القبائل»، ويعزو غياب التنفيذ إلى إجراءات إدارية ترتبط بتعيين رئيس مجلس نقباء كل أربعة أشهر. إذ إن مجلس «النقباء لا يتابع إجراءات استكمال المركز، فيما يراوح المشروع مكانه، وكل متابعة تضيع مع رئيس مجلس نقباء سابق». يقر رئيس لجنة الحريات في نقابة المهندسين، ميسرة ملص، بأن النقابات «قصّرت، في تنفيذ مركز الدراسات الذي لم ينفذ على أرض الواقع لغاية الآن»، لكنه يضيف متفائلاً: «سيشهد التنفيذ على أرض الواقع قريباً، بعد تخصيص قطعة أرض لهذه الغاية، والتي كانت احدى العقبات بالإضافة الى الإجراءات الإدارية». خلافاً لدعوات النقابات لإغلاق مؤسسات «المدني»، يؤيد رئيس مركز الأردن الجديد، هاني الحوراني إقامة مركز دراسات في النقابات المهنية بحكم أنها بيوت خبرة. يستذكر الحوراني العرض الذي تقدم به للنقابات بتسليمها مركز الأردن الجديد للدراسات شرط إدارته بطريقة مهنية مستنيرة، إلا أن مجلس النقباء رفض «العرض». في المحصلة تبقى أنشطة مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية معياراً أساسياً، فبينما تنظم الأولى عشرات الأنشطة تتوزع بين ورش عمل، ندوات وإصدارات - من بينها ما يتناول الشأن النقابي رغم عزوف النقابات عن المشاركة فيها، تغلب على أنشطة الثانية فعاليات خطابية، مسيرات وحملات خيرية. من بين عناوين مراكز الدراسات كتب تتطرق الى الشأن النقابي، منها: (النقابات المهنية وتحديات التحول الديمقراطي في الأردن) الذي تضمن سلسلة ورش عمل عقدت مابين 1997 – 1998. مطالبات النقابات، وفي مقدمها نقابة المحامين بإغلاق منظمات «المدني» ذات العلاقة بالتمويل الأجنبي ، ليست حديثة العهد. رئيس مجلس النقباء لعدة دورات صالح العرموطي، وجه رسائل لثلاثة رؤساء حكومات : علي أبو الراغب، ومعروف البخيت، ونادر الذهبي اتهم فيها «مراكز تعمل تحت مسميات لها علاقة بحقوق الإنسان والمرأة وما يسمى بحرية الصحافة ومراكز الدراسات والمعلومات، تمارس نشاطات وندوات» بأنها «تكرّس الانتقاص من هيبة الأردن وسيادته». ويلاحظ على هذه النشاطات طابعها الأمني والاستخباري ما يندرج تحت باب الخيانة العظمى». وخاطب العرموطي مراقب عام الشركات لتصويب أوضاع المؤسسات غير الربحية ،مدعياً أنها خالفت ذلك من خلال التمويل الأجنبي. كما سعت نقابة المحامين الى تشكيل «ملتقى وطني للتصدي لتلك المؤسسات». يجدد العرموطي لـ «ے» اتهاماته لـ «المدني» بأن قاعدة «الولاء لمن يدفع» هي المتبعة لدى هذه المؤسسات التي تعتمد على التمويل الأجنبي، واصفاً إياها بـ«المؤسسات المشبوهة». ويزيد من تشابك علاقات النقابات بـ «المدني» أن عدداً من مؤسسي منظمات «المدني» هم منتسبو نقابات بالدرجة الأولى، مثل: المحامية أسمى خضر، (مجموعة القانون لحقوق الإنسان ميزان) ، والمحامي عاصم ربابعة ، (مركز عدالة لدراسات حقوق الإنسان)، والصحفي عريب الرنتاوي ، (مركز القدس للدراسات)، والمحامي سمير الجراح ( مركز العالم العربي لتنمية الديمقراطية وحقوق الإنسان)، والمهندس موسى المعايطة (مركز البديل للدراسات). وتعتبر منظمات «المدني» أبرز المدافعين عن النقابات المهنية لدى تعرض هذه للتضييق على أنشطتها، وقد عقدت منظمات مجتمع مدني أنشطة وندوات تطرقت الى واقع النقابات. تعد النقابات المهنية من مؤسسات «المدني» وأكثرها فعالية برغم أن الزامية العضوية تتعارض مع طوعية الاختيار والانتساب التي تعد من أبرز سمات مؤسسات المجتمع المدني. فيما يكمن الاختلاف الجوهري في مصادر التمويل. فالنقابات تمتلك أرصدة ضخمة نابعة من الاشتراكات التي يدفعها منتسبوها، بينما تفتقر مؤسسات المدني الى التمويل اللازم لاستمراريتها والقيام بأنشطتها، باستثناء التمويل الأجنبي في ظل غياب التمويل المحلي: الرسمي أو الأهلي. العلاقة بين الطرفين، كما يراها الحوراني، لا بد أن تستقيم كعلاقة تجاور وتنسيق وشراكة ، ويرد توتر العلاقة «لوجود توجهات بينها أيدولوجية وفكرية لدى بعض قادة النقابات» يؤرخ الحوراني توتر العلاقة «بقرابة العشر سنوات» ، ملاحظاً بشيء من الأسف «أن النتيجة كانت أن النقابات أضحت في واد ومؤسسات المجتمع المدني في واد آخر». يتمنى الحوراني «على قادة النقابات الذين يواصلون كيل الاتهامات مراجعة شعاراتهم التي ما فتئوا يطلقونها منذ 10 سنوات ، دون أن تؤدي الى أي نتيجة سوى القطيعة» ، لافتاً الى «ازدواجية نقابية في التعاطي مع مؤسسات المدني»، ففي حين يشن هجوماً نقابياً على هذه المؤسسات، يشارك نقابيون في نشاطاتنا، كالندوة التي عقدت قبل الانتخابات النيابية ، تحت عنوان «الإطار الانتخابي في المملكة الأردنية الهاشمية : توقعات لانتخابات 2007 »، وشارك فيها رئيس كتلة جبهة العمل الإسلامي في مجلس النواب الرابع عشر المهندس عزام الهنيدي». في الطرف الآخر ينفي السقا، أن يكون هناك قرار بمنع مشاركة أعضاء نقابة المهندسين في نشاطات مؤسسات المجتمع المدني، «لا نمنع الناس من المشاركة الا أننا نحثهم على عدم المشاركة في أي نشاط منظم من قبل مؤسسات تتلقى تمويلاً من جهات أجنبية خاصة إذا كان التمويل أميركياً». ويرى السقا أن «حل مشكلة تمويل هذه المؤسسات يكمن بدعمها وتمويلها من قبل الدولة ، كبديل عن التمويل الأجنبي». ينفي ملص وجود توتر في العلاقة بين الطرفين ، «إنما هناك موقف نقابي من موضوع التمويل، وهو موقف يتماشى مع موقف اللجنة التنفيذية العليا لمقاومة التطبيع ، الذي يقضي بعدم التعامل مع هذه النشاطات». ويصف مقاطعة نشاطات تنظمها مؤسسات ممولة أجنبياً ، من قبل أحزاب ونقابات «بعدم الفعالية»، مشيراً الأخطاء قد تقع ناجمة عن جهل النقابيين المشاركين بطبيعة تلك المؤسسات، وبمصدر تمويل الورشة أو الندوة وهي مجرد أخطاء ، وحين يدركون حقيقة الأمر يتراجعون عن ذلك». في السياق ذاته يقر مدير مركز عدالة لدراسات حقوق الإنسان المحامي عاصم ربابعة: أن العلاقة بين الطرفين «يشوبها سوء فهم من قبل النقابات لطبيعة الدور الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني». ويرجع ربابعة أسباب اللجوء للتمويل الأجنبي الى «عدم وجود بدائل محلية». يدعو ربابعة، أي منتسب للنقابات المهنية لديه موقف مناوئ لمؤسسات المجتمع المدني إلى زيارة مركز عدالة «للاطلاع على سلامة إجراءاته وآلية إنفاق الأموال، وكيفية استثمارها، وعقد الندوات والدراسات». ***
مفهوم المجتمع المدني
نشأ مفهوم المجتمع المدني في القرن التاسع عشر، عند الفيلسوف الألماني هيغل، الذي جعله منطقة وسطى بين "المجتمع السياسي" أي أجهزة الدولة، والمجتمع التجاري القائم على أساس الربح، بحيث يكون للمجتمع المدني أدوار تنظيم الناس للدفاع عن مصالحهم، وإقامة التوازن بين مجتمعي السياسية والتجارة. تطور المفهوم مع المفكر الإيطالي غرامشي (1891-1937)، الذي أدخل "المثقف العضوي" عنصراً ضرورياً في المجتمع المدني، ليقوم بتشكيل الرأي في هذا المجتمع، ورفع سويته الثقافية والأيديولوجية، بحيث يصير قادراً على ممارسة السلطة الأخلاقية، ضد هيمنة الدولة على مجتمعها "التحتي". مع تعدد التجارب واتساع الأيديولوجيات، بات مفهوم المجتمع المدني يختلف من موقف أيديولوجي لآخر، وكذلك بحسب مستوى تقدم الدولة التي يتواجد فيها، لكنه في جميع الأحوال ينطوي على معايير واحدة تقريباً، قوامها الفصل بين أجهزة الدولة والمجتمع، والتفريق بين آليات عمل الدولة وآليات عمل الاقتصاد، وتمييز الفرد باعتباره كياناً قائماً بذاته، أي له حق "المشاركة". ففي الفهم الليبرالي للمصطلح، يكون للمجتمع المدني دور مواجهة مركزية اتخاذ القرار في الدولة، عبر توفيره أشكالاً مباشرة للمشاركة السياسية، تتجاوز البرلمانات. أما في الفهم الاشتراكي، فإنه فضاء لمواجهة سيطرة اقتصاد السوق على مجمل الحياة الاجتماعية. كذلك، فإن المجتمع المدني في الدول التي تتمتع بأنظمة ديمقراطية، يكون وسيلة للضغط والنقد، بينما يكون في الدول التي تحكمها أنظمة الحزب الواحد، محاولة للبحث عن مرجعية اجتماعية خارج سلطة الدولة المطْبِقة، ويكون في البلدان النامية كالدول العربية، محاولة للخروج على كل من الدكتاتوريات السياسية من جهة، والبنى الاجتماعية العصبوية المتخلفة، التي لا تعترف بالفرد وكيانه، من جهة أخرى. وفي ضوء ذلك، قد تتباين ماهية المنظمات والمؤسسات التي تعد جزءاً من المجتمع المدني، بين مكان وآخر، وبين تجربة تاريخية معينة وسواها، بناءً على التغيّر في ماهية "المجتمعات الأخرى"، وبخاصة المجتمع السياسي، فهذا الأخير تختلف ماهيته بالضرورة بين الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية. غير أن مفهوم المجتمع المدني، يظل قائماً على محددات عامة، أهمها طوعية العضوية في منظماته، وقيامه على التنظيم والمؤسسية، واستقلاله عن السلطة، وممارسة سلوك مكمّل لقيم المواطنة وحقوق الإنسان والمشاركة والفردية وما شابهها. بهذا يتكوّن المجتمع المدني، من كل المنظمات طوعية العضوية، المستقلة عن السلطة السياسية، وغير الساعية لتحقيق الربح المالي، التي تدافع عن قيم بعينها مثل: منظمات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وجمعيات الخدمة الاجتماعية، واتحادات الكتاب والتنظيمات الثقافية، وغيرها من المؤسسات الشبيهة. وقد تتوسع حقول عمل هذه المؤسسات أو تضيق، وبالتالي يزيد تنوعها أو يقل، بحسب المكان والتجربة التي يتواجد فيها هذا "المجتمع المدني". |
|
|||||||||||||